عندما التقيته لأول مرة، كان وجهه يجمع ما بين العبوس والتجهم والإحساس بالقرف من الحياة، وأن ثمة ضجيجًا في رأسه.. كانت أمه ألمانية وأبوه مصري ويعيشان في الخارج، وكان زائغ الملامح، وقارئ نهم ودارس متعمق لعلم المصريات، الذي أفضى إلى ضلالاتٍ وهلاوس، تتعلق بالديانة المصرية القديمة وفحواها.. وكان يفاجئك أحيانًا بغرابه سلوكه أو بنظرةٍ أو حركة غريبة. استمر علاجه طويلًا، ثم تزوج وأنجب وغيّر نمط حياته تمامًا بالاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى الجيم، وأرسل إليّ هذه الرسالة التي اضطررت الى حذف بعض تفاصيلها لاعتباراتٍ خاصة: ” ترددت على عيادات الطب النفسي كمريض بالفصام لخمس وعشرين عامًا، والطب النفسي يعتبر مريض الفصام قضيةً خاسرة، وفي أحسن الأحوال يبقي المريض في البيت تحت تأثير الأدوية المُعالجة لباقي حياته. طبيبي النبيل بطرقة الغريبة المتجددة وعلمه وعقله الحاد، يراهن على المريض الفصامي برغم جميع العقبات، ومؤمن بأنه يستطيع أن يعيش حياة منتجةً وطبيعية، مجهودٌ رهيب يبذله مع كل مريض على حِدة، يبدأ بتكوين علاقة قوية مع المريض الذي في أحسن الأحوال يفتقد لكثير من المشاعر الإنسانية وتحاصره الأفكار الاضطهادية، رهانٌ مستحيل لا يلبث بعد فوزه به، أن يبدأ بتكوين وعي وفكر وإزالة الصدأ المتراكم على الشخصية، مرةً بالجلسات الفردية ومرةً بجلسات العلاج الجماعي بالسيكودراما، واستيعاب المريض داخل أسرة صغيرة آمنة، يستطيع التعايش بأمان فيها، والتعبير عن ذاته المُكبَّلة بحرية، مع استخدام أقل قدْر من الأدوية النفسية؛ فكانت عيادته شرنقة احتضان للمرضي ما لبثوا بعدها أن أصبحوا فراشات محلقة، وانتصر د. خليل فيما فشل فيه دون كيشوت، انتصر على طواحين الهواء وأثبت أن مريض الفصام قادرٌ على الحياة”.
إن فصام العقل المعروف أيضًا بالــ Schizophrenia، اضطرابٌ نفسي يتسبب في تشوهات في الإدراك العقلي، وتلعب عدة عوامل دورًا في تطور هذا الاضطراب؛ فهناك علاقة بين الفصام ومستويات غير طبيعية من بعض المواد داخل المخ، وتشمل اختلالات في بنيته ووظيفته، وعدم توازن النواقل العصبية فيه.
من ناحيةٍ أخرى تشير الديناميكيات النفسية للفصام باعتباره اضطرابًا عميقًا يعكس صراعات داخلية غير واعية، واضطرابات في النمو النفسي، وانفصال الأنا عن الواقع، ويُعتقد أن مشكلته الجوهرية هي ذلك التفكك والتفتت الأساسي في الأنا Ego التي تُعتبر الوسيط بين الدوافع الداخلية والواقع الخارجي، حيث تصبح عاجزةً عن الحفاظ على تماسكها، وقد تؤدي الروابط المزدوجة المتكررة، بمعنى تلقى الطفل رسالتين متضاربتين من أمه تنفي إحدى الرسائل الأخرى، مما يخلق مفارقة حيث لا يستطيع الإنسان حلّ الصراع، فتتشوه قدرة الطفل على إدراك الواقع بدقة، ما يؤدي إلى ظهور الأعراض الذهانية، حيث يفقد المريض القدرة على التمييز بين تجاربه الداخلية والخارجية، ويكون هذا التشرذم في الأنا نتيجة صدمات في مرحلة الطفولة المبكرة، وحيث يفشل الطفل في بناء إحساس مستقر بالذات بسبب رعاية غير متسِّقة ومهملة.
ويعتمد مرضى الفصام بشكل كبير على آليات الدفاع البدائية، التي تهدف إلى حماية الأنا، لكنها تصبح غير فعالة وتؤدي إلى أعراض مرضية، كالإسقاط Projection بأن يتم نقل الأفكار أو المشاعر غير المقبولة إلى كيانات خارجية، مما يولد الهواجس والأحاسيس والأفكار الاضطهادية، والنكوصRegression العودة إلى مراحل تطور سابقة كوسيلة للهروب من الضغط النفسي الشديد، وتُستخدم هذه الآليات لهشاشة الأنا وعدم قدرتها على التعامل مع الصراعات المعقدة، وقد تفشل “الأنا الحقيقية” في الظهور بسبب غياب “بيئة حاضنة” أثناء الطفولة، مما يؤدي إلى شعور بالفراغ وانعدام الواقعية، وهو ما يظهر بشكل شائع لدى مرضى الفصام.
ووفقًا للتحليل النفسي التقليدي، قد يكون الفصام نتيجة صراعات داخلية عميقة غير واعية تُثقِل الأنا؛ فيرى فرويد أن الفصام ينشأ بسبب انسحاب الطاقة النفسية Libido من العالم الخارجي؛ فيركز المريض على عالمه الداخلي، وتصبح “الأنا” لديه هشة، مما يعني أنهم لا يستطيعون التمييز بين أفكارهم ومشاعرهم، ولا بالمحفزِّات الخارجية.
إن الديناميكيات النفسية لمرضى الفصام تعكس عالمًا داخليًا متفككًا، ينشأ عن مزيج من الإخفاقات التنموية، والصراعات غير الواعية، والتحديات الوجودية، وفهم كل هذا يمكننا من تقديم رعاية أكثر تعاطفًا وفعالية.
“أنا أعاني من الفصام. أنا لست السيكدزوفرينيا، وأنا لست مرضي العقلي، إن مرضي جزء مني “، جوناثان هارنيش فنان وكاتب.