«عصفور طَلّ من الشباك، وقالي يا نونو، قلتله ريشاتك وين؟ قالي فرفتها الزمان، نزلت ع خدّه دمعه، وجناحاته مَتْكيَّه، واتهدّى بالأرض وقال بدِّي امشي وما فيّا، قلتله لا تخاف اتطلع، شوف الشمس اللي رح تطلع، أمواج الحرية بتلمع».. ناوشتني كلمات تلك الأغنية المؤثرة؛ فظلّت تُلِح على ذاكرتي، ما أن دخل ذلك المراهق السوري 16سنة فرِحًا، صائحًا سأذهب إلى حلب غدًا، ولما دخلت أمه منتشية ومبتهجة، قائلةً: «كيف يحِن لبلده وانا أخذته منها وعمره 4سنوات لا يعي شيئا؟»، أخبرتها أنه واعٍ وسيعي أكثر، لقد سمع وشاهد وسيقرأ، لقد اهتزّ بزلازل تركيا، وارتعب بمحاولة اللصوص اقتحام سيارة أهله التي كانوا يحاولون النوم فيها، إن الوطن محفورٌ في جيناته”.
والتقيت بسوريٍ آخر، كالعصفور الذي طَلّ من الشباك، ينظر بعين الإنترنت بكل وسائلها إلى بلده، يصدِّق ولا يصدِّق، رأى من حُرِّروا من سجن صيدنايا للتو، مشوشين مهللين، وذلك البوست: «لو الثورة دي اتعملت عشان صيدنايا بس يبقى كفاية قوي، وتبقى نجحت وزيادة كمان».
وعالم نفس مُغَيَّب يدّعي أن السوريين سيعانون من “قلق الانفصال عمَّا كان”؛ فما كان ليس بالشيء الذي يقلق السوريون الانفصال عنه، ربما تعودوا على ظلمة الليل والاختفاء القسري، إنها تلك الصورة المعاكسة، وذلك التناقض الذي لإدراكهم للطاغوت الساقط من مكانه المنيع، الذي أكل حواس الناس كما تأكل الدودة أوراق القطن فلا يزدهر، كثرٌ يقاومون شبح المعتدي، ويحاولون تشكيل هُوَيَّاتهم الجديدة، التي ستبزغ مع الوقت والنضال، إنهم يدركون ويعرفون أنه رحل، لكنه ربما يختبئ، ومن يضمن لهم بعدم إطلالة طاغوتٍ جديد، ومن سيملأ الفراغ الشاسع، هناك خوف من نمو الشجرة نموًا معوجًا، لان ظلَّها المقهور يرتمي على حائطٍ مُتداعٍ ومشروخ.
إن الحرية الحقيقية هي في التخلُّص شبح العدو في اللاوعي لأكثر من نصف قرن، ولكن في الوقت نفسه هناك فراغ بحجم آثامه وجرائمه وإعداماته ومذابحه، إن مرجعية العدو تكمن في حدود ما فعله بالضحايا انفعاليًا.
إنه فراغ الحرية الداخلية غير المصدَّق، والذي يتعارض مع السكينة والاطمئنان، هذا الفراغ لا تملأه حكومة مؤقتة ولا جيش دمره بالكامل الكيان الصهيوني، ولكن بالتكامل النفسي، وبتعريف الأشياء كما هي بمسمياتها، هذا الفراغ الذي تركه الماضي لا يملك البنية الحقيقية لاستمرار وجوده، غير أن سمومه تنتشر في المكان، فالأسير الذي أمضى عقودًا من عمره أكبر من تلك التي عاشها حُرًا، في زنزانةٍ تحت الأرض، عندما ينظر إلى السماء والطيور والناس في حيواتهم العادية، يجد عالمًا آخر شديد الرحابة قد يكون مُستغربًا، لأن جدران الزنزانة التي حبسته لم تستطع إن تنزع منه آماله، كانت تُحِدّ مسؤولياته وتفكيره، فالحرية الوجودية تجلب معها عبء تعريفها، واختفاء الديكتاتور يتطلب من الضحايا، ملء الفراغ بمعانٍ جديدة جميلة ونبيلة، لكن المهمة صعبة وثقيلة، ربما لأن النفس قد تعودت على الانغلاق.
عاقبت الآلهة سيزيف بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي؛ فيعود إلى رفعها إلى القمة، وهكذا يظل إلى الأبد، ليصبح رمز العذاب اللا نهائي، ورأى ألبير كامو أن سيزيف يجسِّد لا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، وختم بقوله: «إن المرء لابد أن يتخيل سيزيف سعيدًا»، تمامًا كما نضال وصراع وكفاح وصبر السوريين.
والشعب السوري العظيم، يحمل تلك الصخرة الثقيلة، على صدره بين يديه وعلى أكتافه، تدميها وعندما تقع تلك الصخرة، تترك مكانها إحساسًا شبحيًا غريبًا مُختلًا، يربك العقل وكما قال نيتشة: «إننا كجزء من هويتنا نعاني في اللا شعور، وعندما تختفي المعاناة نُحِسّ وكأننا فقدنا جزءًا كبيرًا من أنفسنا»، لهذا يتذكر الإنسان دائمًا، أيام الصدمات والإلام والافتقاد ولا يتذكر الفرح إلا قليلًا ونادرًا وربما بالصدفة.
تجد الروح تجد نفسها في الصمت، إحساس بتوقف الزمان والمكان، يتطلب تأملًا حسيًا ونفسيًا في أعماق الذات كما قالت امرأة دمشقية، دعوة للتشافي وكأنك تواجه السقوط في الهاوية، لكنك تتماسك على حافتها، بكل ما أوتيت من شجاعة وأنامل قوية، لقد تهشمّت المرآة تحت قبضتي الظالم، وتقف فارغة لا تعكس إلّا صور الضحايا، بكل تشوهاتهم وذكرياتهم المنسية، وآلامهم وكسورهم وتعثراتهم، إذن فلابد للضحية أن يجد هدفًا أكبر يملأ به الفراغ والخواء.