الصورة الذهنية لـ «إسرائيل» في الوجدان الجمعي العربي

الصورة الذهنية لـ «إسرائيل» في الوجدان الجمعي العربي

إن الامتعاض الأخلاقي المصري ليس مجرد موقف سياسي، بل هو شعور متجذِّر في الذاكرة التاريخية، والوجدان الجمعي، والمبادئ الأخلاقية التي ترى في المشروع الصهيوني نموذجًا للهيمنة والظلم، وهذا الامتعاض يُشكّل جزءًا من الرفض الأوسع للهيمنة الأمريكية على القرار العالمي، خاصة في قضايا المنطقة، وكما جاء في مقال أحمد الدريني بالمصري اليوم بتصرف: «الامتعاض الأخلاقي كان جوهر الموقف المصري.. جاء الامتعاض، ثم تتالت الشروحات والاعتراضات التقنية، تحت مظلته». فيا تُرى كيف يستبطن العقل المصري والعربي إسرائيل؟

ولدت في 1948 عام النكبة، وبعدها في 1956 كنت 8سنوات ووجدت نفسي في خضم معرك تعبئة ضد العدوان الثلاثي، كنت في المدرسة الابتدائية نرسم الصور التي تمثل المقاومة الشعبية في بورسعيد، وكان العهد الناصري وقتها يشعل النيران في قلوبنا الحماسة، وكأطفال علمنا بمجريات السياسة، ناهيك عن أن والدي كان حريصًا على أن أقرأ معه اهم المقالات في الأهرام، بعدئذٍ وأنا 19 سنة في 5 يونيو ،1967 أُسقِط في يدي كانت القاهرة في كفن وشاهدت جنودنا العائدين، وظللت ساذجًا أحلم بعودة سيناء في غضون شهور، وتغير مسار حياتي تمامًا، أحسستُ بغصّة في حلقي لا تزال آثارها موجودة حتى الآن، وشاركت مع زملائي في الحركة الطلابية 1972-1973 للمطالبة بحمل السلاح وبدء تحرير الأرض، ودحضنا آراء هيكل بشأن استحالة الحرب لأن سيناء أرض مفتوحة ومسطحة، ثمَّنا عمليات رأس العش وإيلات وفي 73 قدرت عظمة الجيش المصري المغوار وأبطاله الاستثنائيين، لكنني تأثرت سلبًا ببنود كامب ديفيد، وكمواطن وطبيب نفسي سمعت ورأيت وتيقنت أن «الكيان المُحتل» لا يفارق الذاكرة الجمعية بقدرٍ كبير من الرفض والحنق والامتعاض الأخلاقي المُرّ كالحنظل وبأضعاف حجم دماء شهدائنا التي روت أرض الفيروز.

منذ تأسيسها عام 1948، ظلّت إسرائيل مفهومًا محوريًا في العقل الجمعي المصري والعربي، لكنه ليس مجرد كيان جغرافي أو سياسي، بل هو رمز معقَّد يتشابك مع التاريخ، والمظلومية، والصراع، والخيانة، والمقاومة. إنها لا تُستدعى كمجرد دولة، بل تتجسد في صورة عدو تاريخي، مشروع استيطاني، كيان عدواني، وواقع قسري مفروض على المنطقة، إن هذا التصور لا ينبع من سردية قومية أو إسلامية فقط، بل هو نتاج تجارب حيَّة من المواجهات العسكرية، والسياسات القمعية، والتدخلات الإقليمية.

إن العقل المصري والعربي يستبطن إسرائيل في ضوء المواجهات العسكرية الكبرى التي شكلت الوعي السياسي والشعبي تجاهها، وأهمها التهجير القسري للفلسطينيين، وسرقة الأرض، وولادة أزمة اللاجئين في 48.، ثم الانتفاضات الفلسطينية 1987، 2000 وإعادة تعريف المقاومة خارج إطار الجيوش النظامية، والحروب الإسرائيلية على غزة ولبنان باستمرار العدوان والتدمير الممنهج، وتعميق مشاعر الغضب والامتعاض، كل هذه الأحداث جعلت من إسرائيل كيانًا حاضرًا في المخيّلة الجماعية ليس كـ«دولة»، بل كـ«عقيدة استعمارية وظيفية»، تخدم مشاريع التفتيت والسيطرة الغربية في المنطقة؛ فانبثقت مشاعر ممتزجة من الكراهية والغضب، والعجز.

إن الامتعاض الأخلاقي بالشعور بأن وجود إسرائيل ليس مجرد واقع سياسي، بل هو إهانة تاريخية للعدالة، وانعكاس لانحياز عالمي ضد العرب والمسلمين، مع عدم قدرة الدول العربية على تغيير الواقع أو تقديم حلول جذرية للقضية الفلسطينية، ووجود تيار عريض يرى أن «المعركة لم تنتهِ»، وأن المقاومة، سواء السياسية أو العسكرية، ستبقى خيارًا قائمًا.

             ربما بدت إسرائيل كواقع، صورة انتشرت أكثر بين الأجيال الشابة، خصوصًا بعد اتفاقيات السلام والتطبيع، وغياب المواجهات العسكرية المباشرة، بأن رأى بعض الشباب أن إسرائيل أصبحت أمرًا واقعًا، والتعامل معها أصبح «شرًا لا بد منه»، حتى لو كان غير مرحب به، ومع ذلك، لا يعني هذا قبول إسرائيل، بل التعامل البراجماتي معها في حدود بسبب تغير الظروف الإقليمية والعالمية.

النتيجة أن إسرائيل بقيت في الوعي العربي «عدوًا»، لكن صورة هذا العدو تطورت من وحش يجب هزيمته عسكريًا، إلى خطر يجب احتواؤه سياسيًا، إلى واقع يجب التعامل معه بحذر، وعلى الرغم من كل التغيرات السياسية، والتطبيع الرسمي لبعض الدول العربية، لا تزال إسرائيل تُستبطن في العقل المصري والعربي كـ عدوٍ يتجاوز الجغرافيا والسياسة إلى الأخلاق والوجدان، ومهما حاولت الدعاية الغربية ترويج إسرائيل كدولة طبيعية، فإن التجربة التاريخية تثبت أنها ستظل بالنسبة للعقل العربي كيانًا مفروضًا بالقوة، مرتبطًا بالخيانة والعدوان، ومحفزًا دائمًا لمشاعر الامتعاض والرفض.

Leave a Reply

Your email address will not be published.