عندما كنت صبيًا أعطتني أمي قنينة من اللمونادة الباردة من «عمايل إيديها»، وطلبت مني أن أوصلها إلى أبي في منتصف الليل في محطة المياه، حيث كان يعمل في نوبتجية طارئة لإصلاح عُطل في ماكينة ديزل، ورأيته في الأوفرول والعرق يتصبب من على جبينه الأسمر ويديه مليئتان بالشحم والزيوت، كم احترمته وقدرته كثيرًا، وسألته عما يفعل تحديدًا؛ فقال إن سبب العُطل قطعة غيار ليست موجودة في مصر «كان ذلك في أواخر الخمسينيات»؛ فأنا أصنعها الآن يدويًا، كان يسميها الصنايعية وقتها «اللقمة».. أي قطعة صغيرة من الحديد تُنحت ببراعة كي تلائم القطعة الأصلية المُعطّلة، من وقتها وأنا أقدِّس العمل اليدوي، لذلك في فتره الامتياز والتكليف وما بعدهما بسنتين، عملت طبيبًا جراحًا مقيمًا فكان عملًا يدويًا، ولكن في أعماقي كان ذلك الشغف للطب النفسي لفهم الإنسان وعمقه، ومحاولة فك لُغزه ولأن هذا الفرع من الطب مرتبطٌ بالآداب والفنون التي كنت أعشقها، لكنني ظللت لفترة معتبرًا نفسي لا أعمل عملًا مفيدًا لأنني لا أعمل بيديّ، وأخذتُ قسطًا كبيرًا من حياتي إلى إن أدركت أن هذا كان خطأً، وان الطب النفسي بالفعل صنعة وحرفة من أهم الحرف في مجال الطب والإنسانية.
يُعتبر الطب النفسي واحدًا من أكثر فروع الطب تعقيدًا، نظرًا لأنه يتعامل مع الجوانب النفسية والانفعالية والسلوكية للإنسان، والتي غالبًا ما تكون غامضة وغير ملموسة كالكبد وقطع غيار المكن، في هذا المجال، تلعب الصنعة والحرفية، بجانب العلم، دورًا محوريًا في تحقيق التشخيص الصحيح وتقديم العلاج المناسب، إذ أن التشخيص الخاطئ، يمكن أن يؤدي إلى عواقب خطيرة، تمتدّ إلى تدهور الحالة النفسية والاجتماعية للمريض.
إن الصنعة في الطب النفسي تعني القدرة على الجمع بين العلم النظري.. أي استخدام المعرفة المستندة إلى الأدلة، وإلى الخبرة العملية.. أي قراءة التفاصيل الدقيقة في شخصية المريض وتاريخه، هذا بجانب «الحِسّ الإكلينيكي» أي مهارة المعالج في التمييز بين الأعراض المتشابهة وتحديد السبب الجذري لها.
إن التحدّيات في التشخيص النفسي جَمّة ومُربِكة؛ فالعديد من الاضطرابات النفسية تشترك في الأعراض؛ فالهوس في اضطراب ثنائي القطب قد يُشخَّص خطأً على أنه نوبة فصام حادة Acute Schizophrenic Episode، بجانب أن السلوكيات والتصورات النفسية قد تختلف بناءًا على ثقافة المريض وبيئته المُحيطة، سواء كانت معادية للصحة النفسية أم مُتفهمةً لها، وعلى عكس بعض التخصصات الطبية؛ فإن التشخيص النفسي يحتاج إلى جلساتٍ طويلة ومتكررة لفهم القصة الكاملة للمريض.
إذن فهي الحرفية في التشخيص، بالإصغاء العميق، وتلك القدرة على التقاط التفاصيل الدقيقة في كلام المريض، مثل التناقضات أو التحولات في المشاعر، وقراءة السياق النفسي والاجتماعي، بفهم حياة المريض، عائلته، وتجاربه السابقة، وربطها بالأعراض، ومن ثمّ فإن أهمية الحرفية في العلاج النفسي، تعتمد على العلاج المبني على التشخيص الصحيح والدقيق، لأن الخطأ في التشخيص يؤدي إلى تفاقم الحالة، كإعطاء مريضة تُعاني من اضطراب الشخصية الحِدّية علاجًا للاكتئاب فقط، مما قد يزيد من الأعراض، والنتيجة عدم تحقيق أي تحسن، وفقدان الثقة في العلاج أو تفاقم الحالة.
أما الصنعة فهي في اختيار العلاج، وتكمن في اختيار الاتجاه الأنسب، بمعرفة متى يحتاج المريض إلى الأدوية فقط، أو العلاج النفسي فقط، أو كلاهما معًا، والتدرج في العلاج بعدم الإفراط في استخدام الأدوية، أو القفز إلى علاجات مكثفة بدون استنفاد الخيارات الأولية.
إن كل مريض نفسي إنسان له خصوصيته وتركيبته البيولوجية والنفسية والاجتماعية الخاصة به وحده دون غيره، أي أن كل مريض فريد؛ مما يستدعي تصميم خطة علاجية تناسب احتياجاته وظروفه، وتأتي إمكانية إدارة الجلسات العلاجية التي لا بدّ أن تكون مرنة ومطواعة، وتعديل نهجها بناءًا على استجابة المريض وقدرته على الالتزام بها؛ فمثلًا، إذا لم يكن المريض متقبلًا للعلاج الديناميكي؛ فيمكن اللجوء إلى تقنيات أكثر مرونة مثل العلاج الإنساني.
في العلاج النفسي الحواري يجب على المُعالِج أن يتعامل بحذر، مع المواضيع المؤلمة أو الصدمات، لتجنب إحداث ضرر نفسي إضافي بــ «إعادة الصدمة»، مع بناء علاقة ثقة مع المريض، حيث يشعر بأنه مفهوم وآمن.
«الطب النفسي والعلاج النفسي مزيج بين العلم والفن؛ فالتشخيص حِرفة تستند إلى الدقة، والعلاج إبداع يتطلب فهم النفس البشرية.»
Leave a Reply