تشهد مصر في العقود الأخيرة تحولات اجتماعية عميقة، تتجلّى بصورة خاصة في أنماط الحياة الأسرية لدى الأجيال الشابة. من أبرز هذه التحولات بروز ظاهرة جديدة نسبيًا، تتمثل في الحياة «الموازية» التي يعيشها بعض الأزواج بعيدًا عن بيوتهم.. سهرات مطوّلة مع الأصدقاء، رحلات صيفية وشتوية جماعية، جلسات على المقاهي، وأحيانًا ممارسات مثل تعاطي الكحول أو الحشيش. والظاهرة لم تقتصر على الرجال فحسب، بل امتدت لتشمل بعض النساء اللواتي بدأن ينظمن رحلات جماعية خاصة بهن، سواء مع أطفالهن أو بتركهم مع المربيات.
هذا النمط يدعو إلى التأمل والحذر، لأنه ليس مجرد تغيير في أسلوب الترفيه أو قضاء الوقت، بل هو انعكاس لتحولات أعمق في مفهوم الزواج والأسرة، ويطرح تساؤلات حول المعاني الجديدة للارتباط والالتزام العاطفي والاجتماعي في مصر المعاصرة. لا يمكن فهم هذا السلوك بمعزل عن التحولات الاجتماعية التي مرّت بها مصر في العقدين الأخيرين؛ فارتفاع تكاليف المعيشة وضغوط العمل جعلت الأسرة عبئًا ماديًا ونفسيًا على بعض الأزواج، فصار «الهروب» إلى دائرة الأصدقاء وسيلة لتخفيف الضغط.
كما أن انتشار ثقافة الفردية والبحث عن اللذة اللحظية عبر السوشيال ميديا والتأثر بالنماذج الغربية غيّر أنماط التفاعل؛ فأصبح «الوقت مع الأصدقاء» يمثل هوية موازية، بل أحيانًا بديلًا عن دور الزوج أو الأب. وبالمقارنة مع جيل الآباء والأجداد، كان البيت مركز التلاقي الأساسي، بينما كان الأصدقاء امتدادًا للأسرة. اليوم انقلب الوضع؛ فالأصدقاء صاروا محورًا أساسيًا، والبيت مجرد محطة جانبية.
هذه التحولات أدّت إلى إعادة تعريف العلاقة الزوجية، بحيث لم تعد تقوم على المشاركة اليومية والاندماج، بل على صيغة من «التعايش الموازي» الذي يترك مساحة واسعة لكل طرف بعيدًا عن الآخر. من الناحية النفسية، تُشعر هذه الظاهرة الزوجة بأنها في موقع ثانوي داخل حياة شريكها؛ فحين يفضّل الرجل أصدقاءه على البقاء معها أو مشاركة تفاصيل الحياة اليومية، يتولد لديها شعور بالحرمان العاطفي والإقصاء، ويتحوّل هذا الشعور إلى إحباط مزمن، إذ تفقد الزوجة الإحساس بالأمان والاحتواء، مما قد يقودها إلى القلق أو الاكتئاب والانسحاب العاطفي كرد فعل دفاعي، فتصبح العلاقة أقرب إلى علاقة وظيفية قائمة على الواجبات لا على الحب.
بدأت بعض النساء البحث عن حياة موازية مع الصديقات، لتخفيف شعور الوحدة أو كرد فعل احتجاجي غير مباشر على غياب الزوج. أضعف هذا التباعد العاطفي الرابطة الزوجية، ودفع العلاقة إلى برود أو صراع دائم، حيث يعيش الطرفان تحت سقف واحد لكن في عالمين منفصلين.
يظل الأبناء الحلقة الأضعف في هذه المعادلة؛ فغياب الأب المتكرر مع أصدقائه أو انشغال الأم بدوائرها الموازية يخلق ما يمكن تسميته بـ«البيت الناقص».. بيت فيه حضور جسدي للأبوين لكن دون تواصل فعّال. في حين يُترك الأطفال للمربيات أو للشاشات، ما يفقدهم نموذجًا حقيقيًا للتفاعل الأسري ويشعرهم بالحرمان من الحنان، وقد يتطور الأمر إلى مشكلات سلوكية أو صعوبات في تكوين الهوية، وبالتالي ينشأ جيل يرى أن الزواج مؤسسة شكلية لا تقوم على التزام وجداني، ما يهدد تكرار النمط أو تحوّله إلى عزوف عن الزواج أساسًا. هذا التأثير التراكمي لا يهدد استقرار الأسرة الحالية فقط، بل يضعف الأساس الاجتماعي للأجيال القادمة.
يرى البعض أن «الحياة الموازية» تمثل تحررًا من قيود الزواج التقليدي، وأنها تتيح للفرد مساحة من الحرية والاختيار الشخصي. ومن منظور آخر، نجدها مؤشرًا على أزمة قيمية وفقدان التوازن بين الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية. المفارقة هنا أن الرجال الذين ينشدون «الصحبة الدائمة مع الأصدقاء» يمارسون شكلًا جديدًا من «الذكورة الهشّة»، إذ يهربون من أدوارهم التقليدية كأزواج وآباء، وفي المقابل فإن النساء اللاتي يتبنين السلوك نفسه يقعن في فخ إعادة إنتاج الأزمة.
تطرح الظاهرة سؤالًا عميقًا حول معنى الزواج في مصر اليوم.. هل هو مؤسسة للتكامل والمشاركة، أم مجرد عقد اجتماعي هش قابل للالتفاف عليه عبر شبكات بديلة من العلاقات؟ الحياة الموازية للأزواج والزوجات ليست مجرد نمط ترفيهي جديد، بل ظاهرة اجتماعية معقدة تحمل تداعيات بعيدة المدى، لأنها تضعف العلاقة الزوجية، وتؤثر سلبًا على الأبناء، وتعيد صياغة مفهوم الأسرة في المخيال الجمعي.
«الزواج قد يخلق بيتًا واحدًا، لكنه لا يمنع أن يسكنه وعيان منفصلان.» فرجينيا وولف.

Leave a Reply