الزمن النفسي المُتَوقِّف لعاملات المنازل والديلفرية

الزمن النفسي المُتَوقِّف لعاملات المنازل والديلفرية

في الظل يعيشون، وزمنهم النفسي يتوقف في الخارج وينهار في الداخل.

في مدنٍ لا تتوقف عن اللهاث والعَدو بلا راحة أو طمأنينة،، حيث تستهلكنا التفاصيل اليومية حتى النخاع، هناك من لا يعرفون الاستراحة ولا يحظون بترف الشكوى، وجوههم مشحونة بامفعالاتٍ مكتومة، أصواتهم عابرة، وخطواتهم لا تترك أثرًا لاختلاطها ببعضها البعض في طين الزحمة والهمّ، ويحملون داخلهم ما لا تُظهره ملامحهم؛ فالزمن ينحت جوانيًا في الضلوع والعظام.

يبدو الواحد منهم وكأنه بخير، يصحو من نومه متثاقلًا يرتدي زيه الرتقالي والشارة على ظهره تشير إلى أنه رقم، يتحمّل صراخ الزبائن على اختلاف مشاربهم، يقف في ذلٍ متحملًا القسوة والنظرة وأحيانًا الإهانة لمدد طويلة، أو يجوب الشوارع بدراجة نارية لا ترحم جسده، ولزامًا عليه أن يبتسم وهو يسلّم الطلب وفي داخله ينهار بصمت.

إنه الرجل الذي لا يملك وقتًا لنفسه، يخرج من منزله في السادسة صباحًا، يعمل حوالي 10 ساعات في تطبيق توصيل، يتناول «سندويتش فول من على الطريق»، ثم يكمّل وردية ثانية في مطعم محلي، وفي الليل، يعود منهكًا، ليجد أطفاله قد ناموا وزوجته تنتظره بشكوى أو بصمتٍ ثقيل كحجرٍ على صدره المثقل بالتعب، ولسان حاله يقول: «أنا شغال ليل ونهار، بس حاسس إني ماشي في نفس الدايرة، الزمن واقف وأنا اللي بتَّاكل.»

إنه الزمن الخارجي المُتوقّف، وداخليًا ينهار عالم الشقيانين، إنهم لا يملكون وقتًا للحلم، ولا مساحة للشوق، يمر اليوم، ثم الأسبوع، ثم السنة، ولا شيء يتغير سوى أن آلام الركبة زادت، و ضعف النظر.

وعاملة المنزل التي تستيقظ قبل الجميع، تصل إلى بيت «المدام» قبل الثامنة، تنظِّف، وتطبخ، وترعى أطفالًا ليسوا أطفالها، وتغادر في المساء منهكةً، لتجد في بيتها صغارها وقد أنهكتهم الحاجة، وزوجًا يفترش الأرض مدخنًا سيجارة حشيش.

في زوايا الصمت، كثير من هؤلاء وغيرهم من العمال المنهكين ـ يلجأون سرًا إلى الحبوب المُخدّرة،

لا طلبًا للنشوة، بل بحثًا عن هدنة مؤقتة من الوجع، «برشامة يخلي الواحد يكمل»، تُخدِّر المفاصل، تسكّن الرأس، وتُلهي الجسد عن الأنين، لكنها، مع الوقت، تخلق عبودية من نوع آخر، بل للجهاز العصبي الذي انهار ولم يجد من يُرممه.

تقول إحداهن بصوتٍ خافت: «أنا باخدها مش علشان أنبسط، أنا باخدها علشان أستحمل».

ومع هذا كلّه، تأتي لحظة النهاية… حين ينظر الإنسان إلى النقود التي حصل عليه بعد تعب شاق، فيجدها لا تكفي؛ فالأسعار تلتهم دخله كما يلتهم الدود أوراق القطن في صمتٍ قاتل، فتذوب “الفلوس” أمام أعينهم كما يذوب الحلم في قيظ الأيام.

ويصرخ الزمن النفسي…ليس لأنه توقف، بل لأنه لم يعد يملك ما يستحق الاستمرار لأجله.

تقبض المرتب من هنا ويقبض الزمن يقبض على روحها يومًا بعد يوم، في جلسةٍ عابرة، قالت إحداهن: “أنا مش بشتغل علشان أعيش، أنا بشتغل علشان ما أموتش، ” ثم صمتت لحظة وأضافت:

«بس حاسة إني بموت حتة حتة كل يوم.»، إنها لا تملك الحق في التوقف، ولا في الحزن، ولا حتى في العلاج.

إن الزمن في داخلها لم يعد يتحرك للأمام، بل بدأ يتآكل، يُفرغها من الأمل، ومن المعنى، ومن ملامحها الأصلية.

وحين يتوقف الزمن النفسي، يصبح الإنسان كمن يعيش في قاعة انتظار لا تُفتح أبوابها أبدًا، يتحرك بجسده، وروحه ثابتة، منهكة، تنظر إلى المستقبل فتراه مرآةً مشروخة تعكس نفس الصورة كل يوم.

وعندما ينهار هذا الزمن في الداخل، لا يحدث أي ضجيج، لكن يصبح الإنسان نسخة باهتة من نفسه.

يبتسم ليُرضي، ويعمل ليصمد، لكنه لا يفرح، ولا يحلم، ولا يزدهر.

إنهم أبناء الظل، لا يملكون ترف التعبير، يضحكون مجاملة، لكن الضحك لا يصل إلى قلوبهم.

ذلك الزمن النفسي هو أحد أكثر ما يمكن أن يُهلك الإنسان دون أن يترك أثرًا واضحًا، إنه كالنمل الأبيض، لا يهدم البيت من الخارج، بل من الداخل، وما أكثر البيوت التي تنهار من الداخل، تحت أجساد عمال بسطاء، ونساء صابرات، وإذا أردنا أن نرى الحقيقة، فلننظر بصدق لا إلى وجوههم عيونهم لنرى الزمن وهو يسقط كأوراق الخريف.

«ثمة لحظات تكون فيها الروح جاثية على ركبتيها مهما كان وضع الجسد» البؤساء، فيكتور هوجو

Leave a Reply

Your email address will not be published.