الكُلّ يعني الكُل.. الاقتصاد المصري و”الفيل والعميان”

الكُلّ يعني الكُل.. الاقتصاد المصري و”الفيل والعميان”

أشار سليمان جودة في مقاله: “فيل رجال الأعمال” المصري اليوم 30/12/24، إلى القصة التي تقول باختصار إن عُميانًا أُدخلوا على فيل، وطُلبَ منهم أن يصفوا الفيل الذي وجدوه، فما كان من كلٍ منهم إلا أن وصفه من خلال الجزء الذي لامسه فيه فقط، وكان تقديره أن هذا هو الفيل”، دون أن يتمكن أحدهم من تصور الفيل كاملًا.

قصة “الفيل والعميان” حكاية رمزية قديمة تُستخدم لتوضيح محدودية الإدراك البشري، وكيف يمكن لتجاربنا الشخصية أن تؤثر على فهمنا للواقع، وتتقاطع تلك القصة وذاك الطرح، مع نظرية “الجشطالت  Gestalt التي وضعتها مدرسة برلين، حول العقل والدماغ، والتي تفترض أن المبدأ العملي للدماغ كُلَّاني، وأن مجموع كل الأجزاء أقل من أداء الكل،  وتعني ببساطة أنه من الضروري اعتبار الكُل، لأن للكُل معنىً مختلفًا عن الأجزاء المكونة له، ولهذا أشار جودة إلى: “ أن كل رجل أعمال حضر لقاء رئيس الوزراء كان يرى القضية في المحروسة، من زاويةٍ تخص عمله هو، ونشاطه هو، وشغله هو.. وهذا بالطبع ليس تقليلًا من شأن ما قيل؛ فمن الطبيعي أن يحدث هذا.. ولكن الأصح طبعًا أن تكون هناك نظرةً أخرى، تضع كل ما قرأناه عن اللقاء، أو سمعناه مع سواه في دائرةٍ واحدة جامعة، فلا تكون الرؤية مُجزّأة، أو متناثرة، أو متفرقة”.

الجشطالت ترى أن فهم النظام الاقتصادي ككل.. السياسات، السوق، المجتمع، والبنية التحتية، أكثر أهمية من تحليل كل عنصر بمفرده؛ فالاقتصاد المصري يعاني من تداخل بين عوامل شتّى مثل البطالة، والتضخم، والفساد، والاعتماد على الواردات، مما يجعل الحلول الجزئية غير فعالة؛ فإذا لم تُعالَج الصورة الكاملة، لا يمكن حل الأزمات إلّا عبر إدراك جديد أو “لحظة استبصار” تربط بين الأجزاء المختلفة، وفي حالة الاقتصاد المصري، قد تكون لحظة الاستبصار تلك، هي إدراك الحاجة إلى إصلاح جذري في التعليم، والصناعة، وتشجيع الابتكار المحلي لتحرير الاقتصاد من التبعية.

كما أن تلك النظرية تتحدث عن ميل الأنظمة لتحقيق التوازن، لأن الاقتصاد المصري بحاجة إلى إعادة تنظيم شامل، لتحقيق التوازن بين الموارد المتاحة والاحتياجات، على سبيل المثال، تقليل الإنفاق على الاستيراد وزيادة الإنتاج المحلي لتحقيق استقرار اقتصادي كما نحاول الآن؛ فالأزمات تُعتبر فرصة لفهم الأنماط الخاطئة وإعادة تشكيلها، والأزمة الاقتصادية في مصر يمكن أن تكون حافزًا لتبني استراتيجيات أكثر شمولية واستدامة.

في السياق المصري، خاصةً عند مناقشة قضايا اقتصادية أو اجتماعية معقدة، قد يقع الأفراد في فخ التركيز على جوانب محدّدة من المشكلة بناءً على تجاربهم الشخصية أو مصالحهم المباشرة، مما يؤدي إلى رؤى مجزأة وغير شاملة، وهذا ما حدث في لقاء رئيس الحكومة مع بعض رجال الأعمال، حيث ركز كل منهم على زاوية تخص عمله ونشاطه، دون النظر إلى الصورة الكاملة، من الناحية النفسية، يُشير هذا السلوك إلى تأثير فخ “التحيز التأكيدي Confirmation bias”، حيث يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم، وتجاهل المعلومات التي تتعارض معها، هذا التحيز يؤدي إلى قرارات غير مستنيرة ورؤى محدودة للمشكلات، عندئذٍ يكون من الضروري تبني منظور شامل يأخذ في الاعتبار مختلف الآراء والتجارب.

في مصر يمكننا تحقيق التواصل المفتوح، وتشجيع الحوار بين مختلف الأطراف المعنية، لضمان تبادل المعلومات والآراء، ولتقييم المعلومات من مصادر متعددة وتجنب الاعتماد على منظور واحد، والعمل الجماعي لحل المشكلات المُركبّة، حيث يمكن لتنوع الخبرات أن يسهم في تقديم حلول أكثر فعالية، وبتبني هذا يمكن للمجتمع المصري برؤيةٍ شاملة، أن يسهم في تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي الأكثر شمولاً وفعالية، وتحقيق الاقتصاد التطوري Evolutionary Economics بمفهوم النظر إلى الاقتصاد كنظام متغير باستمرار يتأثر بالتكنولوجيا والثقافة، ومن ثمَّ يمكننا تشجيع الابتكار وريادة الأعمال ودراسة التحولات الاقتصادية طويلة الأمد، واعتماد نظرية النمو الداخلي  المؤكدّة على أن الاستثمار في رأس المال البشري، والابتكار، والبنية التحتية يؤدي إلى نمو اقتصادي مستدام؛ فالأزمات الاقتصادية غالبًا ما تؤثر على الروح المعنوية للمجتمع، مما يتطلب سياسات تعزِّز الثقة والاستقرار النفسي للمواطنين، وبتطبيق نظرية “الجشطالت” على أزمة الاقتصاد المصري، يتطلب الحل رؤيةً كليةً شاملة تركز على إعادة التوازن بين العوامل المختلفة بدلاً من معالجة كل مشكلة بمعزلٍ عن الأخرى.

Leave a Reply

Your email address will not be published.