إن الأسَر المنهكة، المتفككة، المرهقة — سواء كانت ميسورة أو محدودة الدخل أو رقيقة الحال— تشترك جميعها في دوامة الضغط والتوتر الداخلي، مع اختلاف في درجات المعاناة المادية. غير أن ما يتولد من اضطراب داخل الأسرة لا يقتصر على طبقةٍ اجتماعية بعينها، ولا يرتبط بالالتزام الديني أو بالأخلاق الحميدة، بل يتصل جوهريًا بنمط العلاقات بين أفرادها، وبروح المشاركة، بحِسّ التقدير، وبكلمةٍ طيبة، وبمراعاة من هم أكثر حساسية وإجهادًا؛ فالأب الذي يعمل فترتين، والأم التي تُنهي دوامها لتعود فتطبخ وتُنظف وتُذاكر، ثم لا تجد من يحتفي بها بكلمة حنان، بل يُطلَب منها أن تكون عشيقة متألقة في غرفة النوم، وللأسف فإن هذا نموذج مُتكرر، والأسوأ أننا نغفل أحيانًا عن ذلك الابن الذي ينزوي خلف بابٍ مغلق، غارقًا في عوالم لا نراها، قد تنتهي بجريمة، كما في واقعة «الدارك ويب».
عندما تغيب هذه الروابط الإنسانية الحقيقية، تفقد الأسرة وظيفتها الأساسية كحاضنة اجتماعية، وتتحول إلى عبء داخلي مهدِّد للاستقرار النفسي والمعنوي لأفرادها؛ فالأسرة تُعَدّ النواة الأولى التي يتكوّن فيها الفرد نفسيًا واجتماعيًا، ولكن عندما تصبح تلك البيئة الأسرية مصدرًا للتوتر والانفعالات السلبية المستمرة؛ فإن ذلك يؤدي إلى نتائج نفسية كارثية على أفرادها، خاصةً الأطفال والمراهقين.
إن الأسرة المُضطربة لا تعني بالضرورة وجود طلاق أو انفصال، بل قد تكون أسرة متماسكة ظاهريًا، لكنها تعاني من غياب التفاهم، وضعف الروابط العاطفية، وانعدام الُلحمةِ بين أفرادها. هذا الافتقار إلى التماسك (Lack of Cohesion) يظهر من خلال العزلة العاطفية، وانشغال كل فرد بنفسه، وعدم وجود إحساس حقيقي بالانتماء أو الدعم المتبادل. وعندما تترافق هذه الحالة مع النبرة المزعجة والنقد اللاذع، أو السخرية، يتحوّل المنزل إلى ساحة نزاع دائم، تفقد فيه الأسرة قدرتها على احتضان أفرادها.
وتتطلب معالجة هذه البيئة الأسرية المرهقة تدخلاتٍ متعددة المستويات، من العلاج الأسري الذي يُعَد من أنجح الوسائل العلاجية، حيث يتمكن المعالج من اكتشاف أنماط التواصل المختلة ومحاولة تعديلها، ويتيح لأفراد الأسرة التعبير عن مشاعرهم داخل مساحة آمنة، ويُشجع على فهم وجهات نظر الآخرين دون أحكام، والعلاج السلوكي المعرفي الذي يُستخدم خاصة مع الأفراد المتأثرين سلبيًا من التوتر الأسري، كالأطفال أو الأزواج، حيث يساعدهم على تفكيك الأفكار السلبية المرتبطة بالذات والأسرة، وتعليمهم طرقًا أكثر صحة للتفاعل مع الضغوط الحياتية.
كما أن العلاج الفردي للوالدين مهمٌ للغاية؛ ففي كثير من الأحيان، يكون أحد الوالدين أو كلاهما بحاجة إلى علاج نفسي منفصل، خاصة إذا كان يعاني من اضطراب نفسي غير مُشخّص، أو من ترسبات طفولية تؤثر على طريقة تعبيره عن مشاعره. كما أنه من المهم تزويد الأهل والأبناء بمهارات تساعدهم على التعبير عن مشاعرهم بطريقة صحية، وتقنيات التنفس العميق، والتأمل الواعي.
ومن أهم محاور العلاج في الأسر المفككة هو استعادة التماسك الداخلي بين أفراد الأسرة، ويُقصد بالتماسك هنا الإحساس بالمصير المشترك، والدعم المتبادل، والتواصل الإنساني الدافئ الذي يربط الأفراد ببعضهم. كما يمكن تعزيز هذا التماسك من خلال أنشطة مشتركة غير رسمية مثل الأكل والمشي والتنزّه معًا، وتخصيص وقت أسبوعي للحوار الهادئ دون انتقاد.
في الجلسات العلاجية، يُشجّع الأخصائي الأسرة على تطوير أهداف مشتركة وإعادة تعريف العلاقات داخلها بطريقة تحترم الفروق الفردية وتدعم الاحترام المتبادل؛ فالتماسك لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى تدريجيًا عبر التفاهم والثقة. فليس كل من يعيش في بيئةٍ مفككة يستطيع أو يرغب في اللجوء إلى العلاج النفسي، ولهذا، فإن المساعدة الذاتية تُعد أداة مهمة لتقليل الأثر النفسي، بالوعي بالمشكلة؛ فأولى خطوات التغيير هي الاعتراف بأن هناك مشكلة تؤثر على سلامة الفرد النفسية. هذا الوعي يحرر الشخص من الإحساس بالذنب، ويفتح باب التغيير، مع إنشاء حدود نفسية داخلية؛ ففي البيئات السامة، من المهم أن يتعلم الفرد كيفية حماية نفسه نفسيًا من سلوكيات الآخرين، دون أن ينعزل كليًا. وهذا يشمل رفض العنف اللفظي أو التجريح، أو حتى التوقف عن الدخول في نقاشات حادّة لا تنتهي؛ فلنتعلم مهارات التواصل الفعّال، بأن يبدأ كلٌ منا بتغيير طريقته الخاصة في الحديث والتفاعل؛ باستخدام نبرة هادئة، بالإصغاء دون مقاطعة، والتعبير عن الاحتياجات بوضوح يُلهم باقي أفراد الأسرة.
Leave a Reply