شخصية الإنسان كالبصمة، تُرى ما الذي يَعيبُها؟

شخصية الإنسان كالبصمة، تُرى ما الذي يَعيبُها؟

لكل منا أبعاده الشخصية، وربما كان أسعد الناس هم أولئك الذين يعتقدون أن الأفكار الأكثر إثارةً للاهتمام، وتلك التي تُدَغْدِغ خلايا المُخ العصبية، لا تتكوّن إلّا في الأدمغة الثريّة، هؤلاء الذين يُغَذُّون حواسّهم بالموسيقى والقراءة ومشاهدة المسرح والسينما، وبالتأمل والترحال والصحبة الجميلة والعلاقات القوية، إنهم ليسوا سعداء بأنفسهم فحسب، بل هم سبب في سعادة الآخرين.

لم تكن محاضرة.. وإنما كانت جلسة مفتوحة، بين أستاذ وطلابه في الهواء الطلق في حديقة الكلية.. أشار إلى أن ينهض طالب ويسأل سؤالًا تدور حوله الحوارات، فكان هذا الشاب اليافع الذي قال: “استأذنا أنت شخصية محترمة، ولكننا جميعًا بما فيهم حضرتك نعاني من عوراتٍ وعيوب ما في تكويننا الشخصي؟ ربما جينات أو عوامل متعلقة بالطفولة، ولكن هل هذا يعني اضطرابًا في الشخصية، أم سمتٌ وطبيعة منذ الصغر.. ما رأيكم يا تُرى؟”.

بانت بعض العلامات على وجه الأستاذ، لكنه فتح الباب للمناقشة وقال إن الشخصية هي مجموعة فريدة من الصفات والاهتمامات والسمات السلوكية التي تميز الفرد عن الآخرين؛ وتُمثل الجوانب الحقيقية للتركيب الانفعالي والسلوكي للشخص، وهي في سوائها تميل إلى أن تظل مستقرة نسبيًا عبر المواقف والسياقات المختلفة، كما أنها تنشأ من المعتقدات الأساسية لإنسان وطبيعته الداخلية، كدرجة انبساطه أو انطوائه أو لطفه أو حزمه وما إليه من جوانب من شخصيته.

اشتدَّت حدَّة المناقشة، وتحولت إلى عصف ذهن Brain Storming، كلٌ يدلي بدلوه.. وفجأة توقف الجميع عندما بدأ الأستاذ يشرح ويناقش ويدلل بالأسانيد اضطرابات الشخصية عمومًا لا تخصيصًا؛ فهي تُعَد مسألةً تمُس النفس والحياة، وتعوق صاحبها ومن حوله وتؤثر سلبًا على بيته وعمله، ودلَّل على ذلك ببعض الأمور، مثل أن يفتقد مضطرب الشخصية إلى اعتباره النفسي، أي تقديره لذاته وشخصه واحترامه لنفسه، كما يعاني من مسألة التغيُّر القيَمي، وازدواج المعايير لديه في أمورٍ واضحة، ويصبح كالأرجوحة “معاهم معاهم” كالإمّعة، أو مختلفٌ لمجرد الاختلاف، دون أساسٍ أو هوية واضحة، ويكون هذا التباين من موقف إلى آخر.. سواء كان سياسيًا أو أخلاقيًا أو شخصيًا، ينُمّ عن اهتزاز في القدرة على وضع الأمور في نصابها، وتجد لديه مشاكل تتعلق بالعلاقة مع الأخرين المقربين، سواء أهل البيت أو الجيران أو الأقارب أو زملاء العمل، لأن سلوك المضطرب يُحبط الآخرين، ويجعلهم منه مُنفرًا مُزعجًا، ثم يجد نفسه خالي الوفاض لا أحد حوله.

من علامات اضطراب الشخصية أيضًا، تلك الصعوبة الشديدة في “المواجدة” Empathy أي الإحساس بالآخر، بمعنى أن المُضطرب يكون باردًا وغيرُ عابئٍ بالآخرين تمامًا، وربما كذب أو  اتخذ أسلوبًا ملتويًا للتحايل على الأمور، كما تحوطه مشاكل جمّة في حدود العلاقة مع الآخر؛ فهو إما يتعدّاها، وإما يجعل الآخر يقفز إلى دائرته دون حدود، مما يُمَيِّع الأمور، ويجعل الحياة غير واضحة المعالم، وذلك في حدود الصداقة والجيران والعمل، كلها تكون مختلطة ومتماوجة “داخلة في بعضها البعض”، كما أنه لا يتمكّن من “الوالدية الصحيحة”؛ فالمضطربون شخصيًا لا يستطيعون أن يكونوا آباءً ناصحين، بل يكونوا من هؤلاء الذين يسيئون معاملة أولادهم، أو يهملونهم ويتسببون في مشاكل عائلية كثيرة، ويؤثرون سلبًا على أولادهم في مراحل نموهم، مما يخلق كثيرًا من التناقضات والاضطرابات، منها الإدمان والهروب من البيت، وانخفاض التحصيل الدراسي.

ومن أعراض اضطراب الشخصية أيضًا، مشاكل كبرى تتعلق بتنظيم الانفعالات، مثل الغضب والضحك في غير وقته، وكثرة الكلام والمزاح “عمّال على بطّال”، وحدِّة المزاج إما بالصياح والنشاط الزائد، أو الاكتئاب والانكفاء على الذات، وعدم القدرة على التعامل مع الـــ Stress وضغوط الحياة، وانخفاض درجة الوعي بالآخرين، وعدم القدرة على الإحساس بأن هناك مشكلة حقيقية يجب علاجها، أو التوجه للطبيب النفساني للترميم والفهم، بجانب مشاكل جمّة في العمل مع الزملاء والرؤساء قد تؤدي إلى إنهاء الخدمات، أو توقف القدرة على الارتقاء والتقدُّم الوظيفي.

ولنتذكر أن تكرار الصدمة في مراحل الطفولة والمراهقة تساهم في تشُوّه الشخصية، حيث يواجه الطفل المُحاصَر في بيئةٍ مُسيئة تحديات هائلة للتكيُّف، والسيطرة على مواقف لا يمكن التنبؤ بها، والقوة في حالة العجز، وهنا على المجتمع تعويض إخفاقات رعاية الكبار لصغارهم، ولننظر إلى أنفسنا وعوراتنا النفسية بدقة، ودونما تكَبُّر أو أنا مُتَضَخِّمة.