مصر دولة مؤسسات ولكن لا لتسليع الإنسان

مصر دولة مؤسسات ولكن لا لتسليع الإنسان

ثمة أزمة عميقة في قيمنا المجتمعية والبنية الأخلاقية، والحياة السياسية والمسار الاقتصادي، “هنا والآن” في مصر المحروسة، الموضوع عميق ومُعقّد، وتحليله سيساعد في فهم العلاقة بين الماضي والحاضر، ويوفر رؤية لبناء مستقبل أفضل، إن الظواهر التي نعيشها لحظيًا، لم تعُد سلوكًا فرديًا، بل تعبيرٌ عن أنماط متكررة، نابعةً من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يمُرّ بها المجتمع.

مع الاحتكار وارتفاع أسعار السلع خاصةً المواد الغذائية، يسيطر قلقٌ مبهم وغامض حول المستقبل، وإحساسٌ بعدم الاستقرار المالي الفردي والجمعي، يطال كل الطبقات بلا استثناء، ومع ذلك أصبح الربح السريع بأي وسيلة، هو الهدف الرئيسي للطفل والمراهق والشاب دون بذل أي مجهود، ومن ثمّ انتشر الغش والنَصب والاحتيال بكافة الطرق، والبحث الدائم عن ضحايا جُدُد؛ حيث أن الاقتصاد القائم على المنافسة غير الشريفة، يدفع المهنيون والتجار إلى تقديم خدمات ومنتجات ذات جودة منخفضة، لتحقيق أقصى ربح وبأقل تكلفة.

زمان كانت الأصالة مرتبطة بالمهارة والإتقان، ومثال لذلك، الحرف اليدوية التي كانت مزيجًا من الفن والإبداع والجودة، أما الآن فيُنظر إلى العديد من المهن والخدمات على أنها “سلع” تُباع وتُشترى، بدلًا من كونها تجارب تعتمد على الجهد والضمير.

في إطار ما سبق يأتي مفهوم “التسليع Commodification”، أي تحويل كل شيء كان يُنظر إليه كحق أساسي أو نشاط ثقافي أو خدمة موجهة للمجتمع، إلى سلعة يتم تداولها لأغراض الربح، أو إتاوة لتغطية نفقات فساد أخرى؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان التعليم والطب والطعام وغيرها، يُنظر إليهم كحقوق أساسية واحتياجات ضرورية، لكن في عصر العولمة، أصبحت تلك الأساسيات تُدار بمنطق السوق.

ومن ناحيةٍ أخرى، سهّلت العولمة انتشار الأفكار والنظم الاقتصادية الليبرالية التي تركّز على المنافسة والربح، مما عزّز من التسليع في قطاعاتٍ متعددة؛ فلم يعد الطعام مثلًا مجرد وسيلة للبقاء، بل أصبح “مُنتجًا” يحتوي على تجربة للرفاهية، والترف والانتماء الاجتماعي.

أما في قطاع الطب والرعاية الصحية؛ فلقد تحولت الكثير من المستشفيات والعيادات، إلى مشروعات ربحية تُغالي في تكلفتها، ومع التقدير لدور التأمين الصحي وعيادات طب الأسرة، لكن انتشار الإعلانات الطبية المُبالِغة والفجّة، جعل الخدمات الطبية منتجاتٌ يتحكّم فيها رأس المال.

 كما أصبح التعليم الخاص والدولي أحد أبرز مظاهر التسليع؛ فتضاعفت تكاليفه بسبب زيادة الطلب على الجودة العالية، أو الاعتماد على الأنظمة الأجنبية المُطلقة، وبدلًا من أن يُصبح التعليم حقًا مُتاحًا للجميع مدى الحياة، صار وسيلةً للتفاخر والارتقاء الاجتماعي.

وأدّى التسليع إلى تعزيز التفاوت في الحصول على الخدمات المختلفة بين الطبقات الاجتماعية؛ فتمكّن الأثرياء من شراء “الراحة والنغنغة”، بينما يعاني الفقراء من انخفاض جودة الخدمات العامة؛ فتآكلت القيم المجتمعية، وتراجع التركيز على البُعد الإنساني أو الأخلاقي.

إن تسليع الخدمات في مصر، كان انعكاسًا لتحولات اقتصادية عالمية، لكن أثره أصبح نصلًا قاطعًا في لُحمة مجتمع يعاني منذ عقود من تحدّيات اقتصادية واجتماعية، وللحدّ من آثاره السلبية، يجب تعزيز دور الدولة والمجتمع في تقديم خدمات إنسانية، تعتمد على الجودة والتكافؤ بدلًا من الربح المادّي.

إن ضعف الرقابة من الجهات المختصة يعزز من ثقافة الاستغلال والمغالاة؛ فعندما يشعر البائع الجوال أو المؤسسة بعدم وجود عواقب حقيقية، يصبح التغَوّل على الموظف والشاري ممارسة شبه طبيعية.

إن هذه الممارسات تعمِّق فقدان الثقة بين أفراد المجتمع؛ فعندما يشعر الشخص بأن الكل “يتغوَّل” عليه، يفقد الإحساس بالانتماء أو المسؤولية الجماعية، وعلى المدى الطويل، يؤدي هذا إلى تفكك العلاقات الإنسانية وتآكل الروابط الاجتماعية.

لا بد لنا من مقاومة النمط السائد، باختيار التعامل مع المهنيين والتجار، الذين يقدمون خدمات أو منتجات بجودةٍ وأمانة، ونشر الوعي بمناقشة هذه القضايا علنًا، إن المسألة ليست بسيطة، لكنها انعكاس لأزمة قيم مركبة تتطلب مواجهة جذرية تشمل الفرد والمجتمع والمؤسسات، ومن المهم أن يبدأ كلٌ بدوره، حتى لو بدا صغيرًا، لإعادة بناء الثقة والقيم الأصيلة، من خلال تعزيز الوعي الثقافي، بالتركيز على القيم الاجتماعية الإيجابية من خلال التعليم والإعلام، وإصلاح المؤسسات، وبتحسين الشفافية والمساءلة، وتطبيق القانون بشكل عادل، والتركيز على الجانب الروحي والأخلاقي من الدين بدلًا من المظاهر، وتحفيز الاقتصاد، بمعالجة الأسباب الجذرية للطمَع، من خلال سياسات اقتصادية تدعم الطبقات المتوسطة والفقيرة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.