كمُسِن على مشارف الثمانينات، دخلت مبنى محافظة القاهرة لا بطلب امتياز، بل لدفع قسطٍ لمقبرة خُصصت لي لأواجه بها موتًا قادمًا لا محالة. توقعت، ربما بسذاجة، أن الأمر سيكون بسيطًا، مُنظمًا، إنسانيًا على الأقل. لكنني، وجدت نفسي داخل متاهة، أو بالأحرى «غابة بيروقراطية»، لا تعرف فيها من أين تبدأ ولا أين تنتهي، كان المشهد صادمًا لا بسبب تعقيد الإجراءات فحسب، لكن بسبب انعدام الحياة خلف مكاتب أغلبها فارغة، لا أحد في مكانه. لا أحد يعرف. لا أحد يريد أن يعرف. كل سؤال يُقابل بإحالة إلى «الطرف الآخر»، و«الآخر» هذا ليس إلا شبحًا يشير بدوره إلى «آخر آخر»، حتى تنتهي الدائرة بك إلى الله تعالى، حرفيًا. والموظف المعني الذي بيده الملف، والإحالة في الدور الثالث من محافظة القاهرة الذي هو بمثابة تسعة أدوار والله.
إنها ليست مجرد شكوى شخصية. إنها صورة مكثفة لانهيار ثقافة العمل، لانهيار معنى «الخدمة العامة» وتحولها إلى مسرح عبثي تسكنه كائنات فقدت القدرة على الحياء، والتفكير، واحترام الوقت والإنسان معًا. لم أكن في منطقة عشوائية، كنت في قلب محافظة القاهرة، عاصمة البلاد. ومع ذلك شعرت كأنني على هامش الوجود، مجرد رقم في دفترٍ مهمل.
ما الذي يجعل الموظف الحكومي في مصر، بهذه القسوة والتبلد؟ إنها ليست قلة الدخل، بل العقلية المُتكلّسّة، التي تُنتجها مؤسسات فاشلة تُدرّب الإنسان على ألّا يكون إنسانًا، بل حاجزًا، جدارًا، نمط نفسي جماعي تتراكم فيه مشاعر العجز، التراخي، والنكوص.
الموظف الذي لا يؤدي عمله لا يشعر بالذنب، بل بالراحة. لأن العمل، بالنسبة له، ليس رسالة، بل عقوبة. وكل مواطن يمُرّ أمامه تهديدٌ إضافي لهذا «السلام الوظيفي» الزائف. ولهذا تجد في ملامحه شيئًا ما من السجَّان الذي يمسك مفاتيحًا وهمية لبابٍ لا يُفتح.
إن ما يحدث داخل المؤسسات الحكومية ليس مجرد تأخر أو عدم كفاءة، بل تآكل عميق في منظومة قيم. احترام الوقت، والإنسان، وفكرة «الوظيفة» بوصفها عقدًا اجتماعيًا وأخلاقيًا بين الدولة والمواطن.. تلاشت.
نشأ ونما هذا الانهيار داخل البنية نفسها، جهاز حكومي هَرِم، لم يُجدِّد أدواته ولا مفاهيمه، تحكُمُه عقلية «المرتّب المضمون»، والمواطن لا يُنظر إليه ككائن له حقوق، بل كمُتطفِّل يُرهق «السيستم»، ويُزعج «الروتين»، ويثير الاشتباه. لقد تحولت الدولة في عيون بعض موظفيها إلى آلة لعقاب الناس، لا لخدمتهم. إننا أمام منظومة تعيد إنتاج الإهانة اليومية، الكل يشبه الكل: ملامح مُتجهِّمَة، وضيق خُلق، وكأن الزمن بلا قيمة.
وإذا أردنا أن نذهب أعمق؛ فيُمكننا فهم سلوك الموظف الحكومي ضمن إطار سيكودينامي؛ فنحن أمام شخص خائف من فقدان السيطرة، وخائف من مسؤولية لا يفهمها، وربما خائف من مواجهة صورة نفسه في مرآة العمل. ولذلك، يتقمَّص السلطة المعكوسة. التي لا يمتلكها فعليًا، ويستخدم موقعه الصغير ليُمارس نوعًا من الانتقام الرمزي على كل من هو أمامه؛ فلربما هو الذي قُهر في زحام مواصلات، وتربَّى على الخضوع لسلطة عليا لا تناقَش؛ فيُعيد إنتاج هذا القهر على هيئة «تعطيل»، أو «تعليمات لا تُفهم»، أو مجرد ابتسامة خبيثة تعني: «مش شغلي»، هو لا يدرك أن ما يفعله ليس مجرد إهمال، بل عنف مؤسسي، وأنه يشارك في تفكيك الدولة ذاتها من الداخل. إنه الموظف الذي يُؤجِّل ملفات وتوقيعات، ويغلق الأبواب مبكرًا، إنه أحد رموز الخيبة الحضارية، لا لأنّه فاسد، بل لأنه فقد الرغبة في الفهم، والنظر، والضمير.
كُثرٌ يتحدثون عن «النهضة»، والمشروعات، والبنية التحتية، لكن الحضارة لا تُقاس بالإسمنت والحديد، بل بالروح الوثّابة. وحين تكون الروح الإدارية ميتة، فإن كل ما تبنيه فوقها هشٌ وزائل.
مصر لم تتراجع حضاريًا لأنها فقيرة، بل لأنها سَمحَت بتراكم الفساد العقلي، وسوء النية، واللامبالاة. لم يكن الموظف الحكومي دومًا كذلك. في زمنٍ مضى، كان حاملًا لفكرة «الدولة». اليوم، هو حامل لفكرة «الهروب من المسؤولية»، ليس من المطلوب أن نُدين الموظف الحكومي كفرد، بل أن ننُسَلِّط الضوء على الكارثة التي تمثّلها مؤسسات تُنتج، وتُكرّس، وتُكافئ اللامسؤولية.
حين تصبح المقبرة نفسها بحاجة إلى قسط، وتُصبح عملية دفعه أكثر تعقيدًا من الحياة ذاتها، فاعلم أنك لا تعيش في ظِلّ حكومة، بل في نكتة سوداء، لا تُضحك أحدًا.
Leave a Reply