مايكل جاكسون
الجمعة 5-06-2009
دراسة للدكتور خليل فاضل
نشرت بجريدة أخبار الأدب – الأحد 5 يوليو 2009
مات مايكل جاكسون بعد أن عاش خمسين عاماً مختلفة الرؤى نفسياً وجسدياً، فنياً واجتماعياً، إنسانياً ودولياً.
عاش وتمنى أن يبدو لنفسه وللناس مختلفاً، وأن يكون شكلاً وجسداً عقلاً وقلباً .. مختلفاً، وكان .. عاد وارتد إلى طفولته، أصبح شاباً وراقصاً ومبدعاً حيوياً ومثيراً للجدل والاهتمام، وأيضاً للاستغراب
والاشمئزاز والتعجب والترقب والرصد والتحليل، ولما اتهموه بانتهاك الأطفال، تراءت كل الاحتمالات المرضية النفسية، واشرأب الناس بأعناقهم نحو شاشات التليفزيون ومانشيتات الجرائد، يحكون أنوفهم ويتأملون ذلك المزج
بين الشهرة والهشاشة، وكأنها الخراف الأليفة السمينة التائهة في الصحراء تدعو إليها الضباع والثعالب وكل من هبّ ودبّ.
كانت نفسه مكسورة وشخصيته شديدة الغرابة، شديد الهشاشة، فهل يا ترى كان يراجع طبيباً أومحللاً نفسياً؛ أم أنه أبى خشية كشف غموضه، سرّه وسرّ نجاحه وربما جاذبيته للبعض.
ظل مختبئاً طيلة تلك السنوات، وراء نزعات طفولية وأمنيات عيال، مرة تحت عباءة ساحر ومرة لرجل الوطواط، تحت الباروكات والرموش الصناعية وملابس الرعب؛ وكأنه يطل علينا كرسومات الكارتون في كتب الأطفال الملونة.
ربما تأنّي كل صباح أوكل ليلة قبل أن يختار من سيكون، بزّة العصور الفكتورية أم رجل الفضاء، وكلما حاول مايكل الخروج من سجن نفسه الكئيب، تعثر في أحجار الطريق وحاصرته أزمة أليمة عصفت بكيانه المختلط ولونه البادي كالغراب الأبيض .. ذلك الذي طلى ريشاته بالطلاء الأبيض، حتى يكون حمامة؛ فلا هو ظلّ غراباً ولا أصبح حمامة فانتمى للاشىء وللحدود وللفضاء واللا هوية واللا معرفة واللا انتماء.
كان يزحف زحفاً بطيئاً كالسلحفاة، وسريعاً كالطوربيد في آنٍ .. خارج مساحات جلده يلّونها كما كانت جيناته، ويلونها كما أصبح بدهاناته وكريماته وجراحوا الجلد والتجميل والتصحيح والتصليح والتركيب والتكميل.
هوية غير مكتملة منتقصة، غير سليمة .. كيان مشوه، وكأنه المسخ يمتلئ بالبثور في قلب غرابة الأطوار، وفي بطن التطرف السيكولوجي البحت، ما انتظر إلا وتشقق وتفسخ. تركيبة تجمع مع ما بين تدمير الذات وتحويلها إلى شىء له مغزى جنسي Fetish ، لعب ولعب معه صانعوا البني آدمين اللعب ( كل شىء ممكن !! ).
المعجبون به كثر، مايكل الصغير الذي أطل عليهم من الشاشة الصغيرة ذات يوم، هو وأخوانه الخمسة .. مايكل الذي قرر أن يضع بينه وبين جذوره كل الممكنات، كل السدود، وكل الحواجز .. وكأنه فرقع لوز يأخذ شكلاً إنسانياً ويتقافز كإفريقي مُهذب، يبتسم في انفراجة حلوة تنفتح لها القلوب، وصوت قوي النبرة، مشدود الأوتار .. مع قدرة خاصة خارقة لتحويل كل المشاعر والانفعالات الناضجة. لكن كان الشيطان مختبئاً خلف كل تلك الصور والقدرات خاصة في عرضه المميز (أبيض وأسود).. شاهدناه في بيوتنا على آرائك غرفة المعيشة ومقاعدها، في غرف نومنا ونحن بالبيجاما وقمصان النوم، نلمح شياطين المخلوق الراقصة كظلال الشمعة الذاوي، كالفراشات وهي تحترق، منفتحة متسعة منبثقة عجيبة الشكل واللون والحجم والمظهر، واسعة الصوت والصدى، كبيرة الموسيقى والصمت، عميقة الضحكة والصدفة .. تتنقل في سحر اللحظة وفلسفتها، من تحول لآخر، من حالة إلى حالة .. وخلف شاشة التلفزيون، يتخفى قرد وبني آدم، امرأة ورجل، رجل آلي وحيوان إنساني، طفل وقزم، بهلوان وشرير ..وكهل وحكيم ..
نعم مايكل جاكسون أسطورة لابد وأن تذكرنا بتلك العرائس البلاستيكية (المانيكان)، وتلك النماذج البشرية المصنوعة من مواد شبه شمعية، توضح في جلاء ما في داخلها: المخ الأمعاء والأعضاء التناسلية، القلب والكبد والطحال والكلى، وكأننا في درس للأحياء أوعلم التشريح لكن بدون انفعالات. كان مايكل جاكسون النسخة (اللحم ودم) هو كل تلك (المانيكانات)، منها ولها .. ممثلاً لعذاباته وتعذيبه، ونفسه المغمورة المفتوحة المجروحة الموهوبة. الرق والنوع، أبيض أسود، أمريكي زنجي ولربما كان جاكسون الأقرب إلى تشخيص الحِدّية Borderline .. ليس ذلك الواقف على الحدود، لكن هذا الذي يتأرجح ما بين مساحتي العقل المتوتر والنفس المجنونة (مجازاً وفعلاً، استعارة حقيقية، كناية وأعراض).
كان حقلاً متسعاً من الاضطرابات النفسية صيرورة منها، ذهان وجداني يعود ويرتد للواقع اختياراً وقسراً. وكان أيضاً يعاني من اضطراب وتشوه صورة الجسد BDD سعياً لأن يقتله اللون وكأنه يغني أبياتاً لشاعر عربي مات
الأسود صار أمير اللون
الضوء يموت
يموت الضوء
يونس لن يخرج من بطن الحوت
الهلالي السنوسي
حمل معه كرهاً عميقاً لأنفه حتى بعد أن عدّلها لتصبح كأنف مارلين مونرو، وتذبذب نوعه وشاع جنسه، وتمكن منه الوسواس القهري ذهناً وفعلاً.
لكن هل لو كان تلقى علاجاً نفسياً؛ فهل كان سيساعده، لا، ببساطة لأنه قد خلق بيئة نرجسية لها ألف مرآة، تعكس ألف صورة، تغوص بعضها في حيل نفسية دفاعية ومقاومة ضخمة، تمنعه منعاً باتاً من كشف عالمه الداخلي، لأي أحد في أي عملية نفسية.
الثروة، الجاه، الشهرة، ضغط الخيال الداخلي الجامح، كالفرس الثائر .. الفانتازيا المتمكنة العنيفة الصاخبة الصارخة لصحراء الوجدان الملفتة في شذوذها وغرابتها كعالم وواقع.
ماذا عنه سلوكه الغريب وهويرتدي القفازات مداعباً طفل الشمبانزي، أومدلياً طفلاً من فوق حافة شرفة للمصورين المهووسين، أو تحولات وجهه من الرجل الأسود إلى الصورة الممسوخة لامرأة بيضاء، مُحيراً معبراً عن اضطرابات نفسية شتى، نامت في ثنايا ثقافة متنوعة جداً .. تربص لها وله، تقدم السن والنضج الإنساني كأعداء مقاومين شرسين.
ربما كان الحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، شديداً في قلبه يدفعه دفعاً في عملية (تكوين عكسي) شديد، ضد أن يكون نفسه وقتما كان طفلاً، تُرى ماذا كان يفعل في حفلاته مع الأولاد ذوى الاثنى عشر ربيعاً وهم ينامون في مسكنه الخاص هل هوشذوذ طفلي أم حنين جارف للطفولة البيضاء.
قال مايكل في صوت مخنون مشنوق حاد رفيع وكأنه فقط تسع سنوات من العمر (لم لا أشاركك فراشك أيها الصبي) .. (أجمل شىء في الدنيا أن تشارك آخر فراشه) قالها الولد ذي الخمسة والأربعين لولد في الثانية عشر، ربما كان حباً تمدد وصار عشقاً ورومانسية مفرطة في طفولتها ؟! ربما.
وبعدئذٍ تأتي دراما الدمار؛ فهل كان مريضاً بعشق الأطفال جنسياً، أم أنه كان ينكص إلى طفل لم يعشه، طفل أبيض.
الإجابة غير واضحة مبهمة، لا تأتي في إطار الإعلان والاتهام، رغباته المدفونة في عقله الباطن، تتمكن فيه ومنّا تخرج مقذوفاً موسيقياً، كلمات أغاني، أغاني، حركات معقدة جداً، رقصات وملابس ودنيا وأحلام ومسارح وجمهور وأيقونات.
كان مزجاً مختلطاً من كل الألوان والأنواع وكأنه يعيد الخلق لنفسه مرة أخرى.
وكأنه يهمس لأمه ( ماما أنظري إلي ..أنا مايكل ..نجم البوب .. السوبر ستار).
مايكل مات بظل لونه وأنفه القديم.
مايكل كان وحيداً في أرض مليئة بالمطبّات والمفاجآت آخرها كان موته.