إن التحولات في المجتمع المصري.. من اللعب البريء للأطفال في الشارع على «التقليد والتغالب».. إلى الهوس الطبقي المعقّد بالسيارات، الشاليهات، الفيلات، والمكانة الرمزية.
كان الأطفال أيامنا يتبارون في إظهار الأقوى.. ساعة أفضل، عضلة أكبر، وكانت اللعبة تُلْعَب على خيال المنافسة، وتفتح أفقًا لإثبات الذات. كانت صورة مُصغّرة لما يجري الآن؛ والفرق أن البراءة تحوّلت إلى هوس، والبساطة صارت سباقًا محمومًا على التمايز الطبقي، عبر رموز الاستهلاك.
مع الانفتاح الاقتصادي أيام السادات، بدأت بنية المجتمع المصري تتحرك، من نموذج «التقشف الوطني»، إلى نموذج «الثراء المظهري»، ولم يعد المال مرتبطًا فقط بالادخار أو بتأمين المستقبل، بل صار مدخلًا لإظهار المكانة.
في الثمانينيات والتسعينيات، ومع تراجع دور الدولة الاجتماعي، أصبحت الطبقة الوسطى في حالة «تآكل» واضطراب؛ فلم يثق الناس بأن كفاءتهم أو تعليمهم وحده يكفل لهم مكانة محترمة؛ فاندفعوا نحو علامات الاستهلاك كوسيلة تعويضية.. شقة أكبر، سيارة أحدث، سفر متكرر.
قال لي بنكي قديم «أن كمية فلوس الكاش التي تُضَخّ يوميًا في البنوك مُخيفة»؛ فتكرّست قاعدة جديدة، من لا يَظهَر لا يُعَدّ، «من اللي معاه قرش يساوي قرش، إلى اللي معاه مليار وجيهٌ يُحتَرم». وما لم تُظهر ثروتك علنًا عبر ممارسات استهلاكية؛ فأنت في الهامش.
اللاوعي الجمعي يحتاج دائمًا إلى «رمز» كي يُصدّق أن هذا الشخص أهم من ذاك. وهكذا صار الاستعراض الاستهلاكي ضرورة نفسية.. المجوهرات، نوع السيارة، مكان الفيلا، حتى تفاصيل السفر ونمط اللباس.
هذا الاستعراض له جذورٌ عميقة؛ فــ «بيير بورديو» سمّاه «رأس المال الرمزي»؛ فليس المهم أن تملك المال فقط، بل كيف «تحوّله» إلى مكانة، عبر رموز معترف بها اجتماعيًا.
هنا والآن صارت تلك الرموز أكثر حدّة، لأن المجتمع يعيش حالة «لا مساواة فاضحة»، والطبقات تبتعد بعضها عن بعض بسرعة.
هناك دافع عميق لدى الإنسان يُسمّى دافع الاعتراف؛ فالطفل الصغير حين يُظهر لعبته أو عضلته، يريد أن يُرَى ويُعترف بقيمته، لكن حين يُصاب المجتمع بالقلق المزمن، نتيجة غياب العدالة، والتدنِّي القِيَمي، وتفكك الهوية، تتحوّل المسألة إلى عُصاب جماعي للاستعراض.
يوجد اليوم خوفٌ عميق من «الاختفاء» أو «التلاشي»؛ فالناس تريد أن تترك أثرًا مرئيًا كي لا تُمحى. ولأن الرموز التقليدية «الاحترام، العلم، المكانة الأخلاقية»، تراجعت قيمتها؛ فلقد ملأ الاستهلاك الفراغ.
ولا يمكن إغفال دور الإعلام والنيوليبرالية؛ فالإعلانات والمسلسلات والأغاني، خلقت صورًا ثابتة للنجاح.. الفيلا الفخمة، الزوجة الجميلة، السيارة الرياضية، السفر للخارج. هذه الصور صارت أيقونات لاشعورية، يلهث الناس وراءها دون امتلاك الوسيلة.
ومن هنا ظهر ما يمكن تسميته بـ «عُصاب المقارنة»؛ فالفرد المصري اليوم لا يقارن نفسه بذاته الأمس، بل بجاره أو بزميله في العمل أو بالشخصية التي رآها على «إنستجرام»، والمقارنة لا تنتهي، والنتيجة قلق دائم.
إن هذه النزعة الاستهلاكية لا تُشبِع بل تزيد القلق. ولأن الرغبة تتأجج دائمًا؛ فإذا اشتريت مرسيدس، ستحتاج إلى مرسيدس أحدث، ثم مرسيدس بوكس. إذا امتلكت شاليه في سيدي عبد الرحمن، ستلهث وراء فيلا في رأس الحكمة، وهكذا ستلهث لهاثًا فارغًا مُحطِّمًا. إنها حلقة النقص-التعويض؛ فالفرد الذي يشعر بنقص داخلي، يعوّضه باقتناء شيء جديد. لكنه بعد فترة وجيزة يعود إلى الشعور بالنقص، لأن الرغبة لا تُشبَع بل تتجدّد. والنتيجة اغتراب داخلي؛ فالإنسان يفقد علاقته بنفسه لأنه يسعى دائمًا لأن يكون «آخر»، شيئًا أبعد، أرفع، أبهى.
تلك الثقافة تركت أثرًا كارثيًا على العلاقات الاجتماعية؛ فلم يعد التمايز قائمًا على القُرب، الجيرة، الحميمية، أو القيم المشتركة، بل على الفوارق المادية الظاهرة؛ لأن الأسرة نفسها تفككت، وصار الأخ يقارن نفسه بأخيه في كل شيء.
في العمق، هناك نرجسية جماعية هشّة؛ فالجميع يريد أن يُظهر أنه «الأعلى»، لكن خلف تلك الرغبة يكمن شعورٌ جمّ بالهشاشة، باللاجدوى، وبالخوف من السقوط.
هذا التحول يعني أن المجتمع دخل مرحلة «الرأسمالية الاستعراضية»، حيث يصبح «أن تملك» أهم من «أن تكون». ومع التَضَخُّم، يصبح الاستعراض أشد عنفًا، لأن القلّة فقط تستطيع أن تستهلك بشكل مبالغ فيه، بينما الغالبية تُقصى.
الإنسان لا يحزن فقط، لأنه فقير ومظلوم، بل لعدم وجود رابط معنوي حقيقي مع مجتمعه، وهذا يظهر في شكل اكتئاب جماعي، نكات سوداء، وعنف في الشارع.
Leave a Reply