بين «إعادة البناء» و«العدالة».. اختبار ضمير العالم في غزة

بين «إعادة البناء» و«العدالة».. اختبار ضمير العالم في غزة

عندما نقف أمام أنقاض غزة، لا نرى فقط ما دمرته الحرب، بل ما جُرّد من إنسانية، من كرامة، ومن ذاكرة. في كل حجرٍ يُرفع، هناك امتحان أخلاقي للبشرية جمعاء.. هل يكفي أن تُرمَّم البيوت بينما تُطوى الحقوق؟ هل يُدان «الحاضر المُبَشِّر» إذا لم يُسدَّد مديونه الأخلاقي مع الماضي؟

تعال وكأنك تدخل غزة بعد وقف إطلاق النار. في الخراب المدقع.. أكثر من 78٪ من المباني تعرضت للتدمير، يُفترض أن يُعطى الانطباع بأن «البداية الجديدة» ممكنة. لكن ما الذي تغيّر فعلاً؟ من يشرف على إزالة الأنقاض، ومن يملك حق توقيع العقود، ومن يحدد تصميم الشوارع؟ في كثير من خطط «إعادة البناء» الدولية، يُشترط انخراط جهات خارجية.. شركات استثمارية، مستشارون أجانب، رؤى تنموية تلتف حول السيادة المحلية.

مثال واضح على ذلك هو خطة «GREAT Trust for Gaza» التي تنتشر في ملفات الإدارة الأميركية وتُروّجها بعض الاستشارات، والتي عُرِفت بأنها «وباءٌ يروّج للتغيّر الترانسفورمي»، من دون التشاور الجوهري مع السكان. هذه الخطة تُقدّم فخًّا.. تُسوّق إعادة البناء كتحفيز اقتصادي، وتُخفّف من أهمية الحقوق السياسية، وكأن بوسع الجمال العمراني أن يخفي الجريمة.

بهذه الطريقة، يصبح الإعمار استمرارية بصيغة جديدة.. للدمج القسري، وإدارة عبور القرى الفلسطينية، وتغيّر الفئات السكانية، وإنشاء «مدن مستقبلية» لا تستقبل إلا من يتّفق مع رؤيتها السياسية. إنها عملية استعمار بصري تقنيني، لا استعادة للمدينة البشرية.

أي إعمار لا يرُدّ الحق ويصون العدالة؟ وإعادة بناء البنية التحتية دون إعمال مبدأ حق العودة يُعد تجاوزًا للقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان. كما أن تعويض الضحايا لا يكون بتوزيع «منح» تكافلية، إنما عبر مساءلة النظام الذي سمح بهذا التدمير.

إن استعادة غزة إلى الحياة يجب أن ترافقها محاكمات، كشف معلومات، شفافية في العقود، استقلالية في الإدارة، ومشاركة حقيقية للسكان؛ فلا يكفي أن تُشيَّد المباني الجديدة إذا بقي الأطفال مفقودين، والأسرى منسيين داخل سجون الاحتلال؛ فكل ذلك يُزيد من قسوة الخراب النفسي.

هذه المطالب ليست وهمًا، بل مطلب إنساني وقانوني؛ ففي جلسات مجلس حقوق الإنسان، مُنحت فلسطين حق المطالبة بآراء استشارية ضد الاحتلال، والإجماع الدولي يدعو إلى أن إسرائيل كـ «قوة احتلال» تتحمل مسؤولياتها القانونية عن إعادة الإعمار تحت إشراف فلسطيني حرّ.

ما يقبله العالم عادة هو ما يُسهّل الربح، السرعة، الكفاءة في المشاريع، ويفرّغ الأبعاد الأخلاقية من النزاع. لكن الشعوب التي تُفرض عليها مثل هذه المشاريع، تسأل: كيف يتعافى الوطن إذا بقي الحيّ المهدَّم روحًا، إذا ظلت القصص الدموية تُطوى، وإذا بُني الأفق دون أن تُبدَّد الجذور؟

هذا هو اختبار الضمير.. هل نكتفي بأرقى ممرّات الحديد، أو هل نطالب بأن تُبنى على الأعمدة العدالة، أنابيب الحقيقة، وطرق المصالحة؟ أن تعود الحقوق أولًا قبل أن تُجدد واجهة المدينة؟

هناك خطة عربية لإعادة إعمار بقيمة 53 مليار دولار، تدعمها الدول الأوروبية، تهدف إلى إشراك السلطة الفلسطينية بشكل مركزي، وتحترم البعد السياسي، لكنها حتى الآن تقف أمام رفض إسرائيلي مباشر.

كلتا الخُطتين تواجهان تحديًا جوهريًا.. كيف تُبنَى غزة عندما لا يُسمَح للاحتلال بالمغادرة، وعندما تُشكَّل الهيئات دون إرادة محلية؟

لكي يُقرّ الإعمار الأخلاقي، على العالم أن يقتنع بثلاث قواعد لا تفاوض فيها: إعادة الحقوق أولًا؛ كالحق في العودة للفلسطينيين، التعويض المالي، كشف مصير المفقودين، وتحقيق العدالة الجنائية يجب أن يكونوا الأساس. ثانيًا، لا صلاحيات تُمنح قسريًا لجهات أجنبية. وثالثًا، أن تكون الإدارة فلسطينية بالكامل، بمراقبة دولية فقط، بتعاقدات شفافة ومفتوحة، وبمشاركة مجتمعية قوية. لا مستثمر يقرر وحده تصميم الحي، ولا شركة خارجية تقطع القرار.

عندما يُطرح السؤال: «هل يمكن إعادة بناء غزة؟» الجواب هو نعم، لكن ليس كما تُروّج المشاريع الكبرى. لأن المستقبل الذي يُبنى فوق مقبرة الحقائق ليس مستقبلًا؛ إنه نسخة أخرى من المأساة. والعالم، عندما يلهث لمدّ الأنابيب وتمهيد الممرات، لن يُختبر بالسرعة أو الإدهاش المعماري، بل بتحمّله لمطلب العدالة والحق. وإذا لم يُعطِ الشعب الفلسطيني حقَّه في أن يُعيد بناء من دُمروا، فلن يكون الأفق الجديد غير طبقة زائفة من الاستعمار المعاصر. وعندها، رغم البنى الفاخرة، ستبقى «غزة» هي تلك المقبرة التي لا يُبنى فوقها أي سلام حقيقي.

Leave a Reply

Your email address will not be published.