تمزَّقت الجثة وتناثرت الأشلاء في الهواء، كما اليقين والهوية والنفس والمفاهيم، والتعليم والصحة والمبادئ والأخلاق والتربية، واللاعب الأساسي في الطريق الواسعة.. وقع في حبائل إغواء الانفتاح على السرعة والمُخدِّر، ليعيش لحظة خوفٍ وانبهار وانهيار، وهل حقًا غابت الطمأنة عن ذهن طبيب الطوارئ المُجهَد، والذي قضي ثلث عمره يتعلَّم، ويدرك ماهية الإنسان بتفاصيله، ليتمكَّن في اللحظة الحرجة، من إنقاذ حياة مريضٍ على شفا الموت، وهل يتساوى ذلك مع طرح المُغنِّي، ذلك المواطن العادي ليصرخ خوفًا على أخيه: “انت مش عارف أنا مين؟”.. جملة تاهت مع الزمن واندثرت؛ فيصبح أُحاد الناس بلا أهميةٍ تُذكَر إلا بما ينفع الناس، أعرف طبيبًا ينام في سيارته تحت المستشفى الخاص، لأن المستشفى لم توفر له سكنًا لائقًا حين يكون مناوبًا، من أجل زيادة دخله، ليقيم أود منزله وينهي دراسته العليا، ويرحل إلى بلاد الله الواسعة، هربًا من نعرات المُتَعظمِّين.
وفي اصطدام التريلا بسيارات نقلٍ مُحمَّلةً بالفراخ؛ لتتحول السيارات إلى صفيحٍ منبعِج، ويختلط الحابل بالنابل، رجال مرور وسيارات إسعاف ومصابين وونش، في عرضٍ يفوق ما يقدَّم على مسارح مصر، والطبيب الشرعي سيد المكان، والسوشيال ميديا بفيديوهات كاملة ومجتزأة وآراء متناقضة، وتعليقات عبثية، تتحول إلى منافسٍ شرس للإعلام البديل، بل وأصبحت غريمتُه في الكذب والتضليل.
أما السفاح الذي سرق الكاميرا من كل الأطراف، وتساءل العامة والدهماء في سذاجة، هل هو مجنون؟ مريض؟ أم مجرم خطير، وهو يستمتع بالــ Show، وكذلك الفيلم المُثير للجدَل دون جدَل، والهَمُّ هو الجمهور وحفنة الدولارات، ودعايةٌ مجانية في انتظار الأكشن.. المؤمن الذي ألحد ثم آمن، وبينهما حشوٌ عظيم.
“اللغو هو فارغ الحديث الذي لا طائل تحته، ولا حاصل وراءه، وهو الهذيان الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب والعقل زادًا جديدًا، ولا معرفة مفيدة، وهو البذيء من القول الذي يفسد الحِسّ واللسان، سواء وجِّهَ إلى مُخاطَب، أم حكي عن غائب”. للأستاذ عبد العزيز رجب، أي ما لا يُعتدّ به من كلام وغيره، ولا يُحصَّل منه على فائدة ولا نفع، وهو أيضًا سَقَطُ المتاع، أما اللغط فهو اختلاط الأصوات فلا يفهم منها شيء، أي صوت القوم المُختلط المُبهم، وهذا هو حالنا الآن.
يخلق كل هذا فيضانًا ومَعْمَعانًا، وموجٌ اجتماعي مُلْتَطَم؛ وهياجٌ بين الثنايا وغليانٌ في الصدور، وارتطامٌ في الأحشاء يمور ويثور كالبركان ولا يهدأ، فحادثةٍ تسلِّم الأخرى، وكأن يدًا تحرك عجلتها اللانهائية دون كلل، فلا تشبع العقول والبطون الخاوية، لتلتهم المزيد وتكبر ككرة الثلج التي تجثُم بلا هوادة على الصدور بلا أنين، إنه اضطراب عدم اليقين مُجتمعيًا وعالميًا وداخل الأسرة الواحدة، وفي الشارع وحركة الكون وزلازله الأرضية، والمُخلَّقة اصطناعيًا وعسكريًا.
عندما نواجه حالة من عدم اليقين، نتأرجح بعنف بين الهلع والهروب، كما عند تشخيصِ مرضٍ خطير لأول مرة؛ فيكون الانتظار هو أسوأ الحالات، الانتظار في العيادات الخارجية الرتيبة، وانتظار نتائج الامتحانات والفحوصات، وكأنك تحيا في نوعٍ من أفلام الكارتون المُمِّلة، والمرضى يريدون اليقين، لكن الأطباء لا يمكنهم التعامل إلا مع حالة عدم اليقين، عندها يصبح مستحيلًا إنكار أن الجسد الإنساني والمُجتمعي، قد تجاوز مواعيده مع الصحة والحياة الطبيعية.
يخلق كل هذا فوضى وارتباك وإحباط وخوف بشأن المستقبل، عند التصدي للتحدِّيات المجتمعية، لهذا يجب التأريخ لأوجه القصور لإصلاح العطب في كل مكان، لأن النجاح يتوقف على فهم الأسباب الكامنة وراء المشكلات، واستحداث سبل لمعالجة أسبابها، مع التصدِّي للتحدِّيات وأوجه عدم اليقين للنمو الاقتصادي، والصحة والتعليم، والطاقة والمناخ، وكافة المعلومات المتغيِّرة بسرعة جنونية؛ فثمة تفاعلاتٍ قوية بين النظم البيئية والناس، لأن نهج الإصلاح السريع لكل تحدٍ، سيكون مكلفًا وثماره ضنينة، إذن فهناك حاجة إلى نهجٍ أكثر تكاملًا؟
أرفض فتح الجرح على آخره، لأنه قطعي وعميق وملوث ومُعَرَّض للغرغرينا والبتر؛ فهل نستخدم الكيّ، أم ندعكهُ بالملح، أم نتركه في الهواء حتى يستوي ويجِف؟
“يسرية بتنام وأم محمود عينها على طفلها.. ولسانها بيوصيه بأخد البال.. إذا ما عدَّى من فوق الرصيف.. بطول البال.. إذا شتموه صحاب الورشة.. يسريه بتنام يوم جديد يصحى، يحجل على ساحته كلاب السادة.. يهبشوا في الغادي والرايح.. كلاب تقول الشعر ما تعرف هوادة”.. محمد سيف.