مُحاولات قتل الجِرذ

مُحاولات قتل الجِرذ

انتفَض هزَّاع من نومه مفزوعًا بألمٍ شديد في إصبع قدمه اليسرى الصغير.. نظر تحته فوجد جرذًا، نظر إلى عينيه، أدرك أنه قد قضَم قطعةً من إصبعه، وظلَّ ساكنًا مكانه يلعق الدم، وينظر إليه مُتحدِّيًا مُحركًا ذيله يمنةً ويسرة، جاهزًا للهرب.

وكان هزَّاع يعرف من قراءاته، أن الجرذان مثّلت مشكلة لقدماء المصريين لتسللها إلى صوامع الغلال وقرضها وإفسادها، لهذا استأنسوا بالقط لأنه يتفقّد الفئران ويقتلها، ولهذا أصبحت له منزلة رفيعةً، واعتبروه إلهًا، وكانوا يحنطونه عند موته.

نهض من فراشه وحمل عصاه، وجرى في كل أنحاء الشقة المهملة باحثًا عن الجرذ، ومحاولًا تضميد جُرح قدمه، لكن قطرات الدماء كانت قد ملأت المكان؛ فأصبح وكأنه مسرح جريمةٍ كبرى، أوحت لهزَّاع أن للجرذ أعوان، وان هناك من يتربَّص به في العمارة وفي الحي بل وفي المدينة والبلد كلها؛ فتوجّه إلى الشبابيك كلها وفتحها؛ فلم يكن هناك لا حِسّ ولا خبر، سكونٌ تام وضوءٌ كابي.. ركض على السلالم وقطرات الدم تتبعه، بينما ينظر خلفه ليجد مجموعة من الجرذان، تلعق آثار الدم، مبتهجةً نشطةً راقصة، وما أن حلَّ به المقام على دِكّة البواب، حتى صرخ صرخةً أخرى، نهض بعدها الحارس وزوجته وأولاده.. “مالك يا هزَّاع”، الجرذ أصبح جرذانًا، وقضم من إصبع قدمي قطعة، استيقظ الجيران واحدا تلو الآخر، ولما عرفوا أن هناك جرذًا، حملوا أسلحتهم المختلفة ما بين سكين وعصا، ونزلوا على السلالم وفتشوا في شققهم، لكن وفيما بعد.. تبيَّن أن كل هذا ما هو إلا هُذاءات وهلاوس هزّاع، لأن البواب والجيران كانوا يعلمون أنه مصاب بفصام العقل “السكيدزوفرينيا”.

            لم يكن هزّاع يختلط بأحد، وحيدًا في شقته لا يزوره قريب أو صاحب، ولا يخرج إلّا نادرًا.. ففصام العقل اضطرابٌ عقلي معقد يؤثر على طريقة تفكير المُصابين به وشعورهم وسلوكياتهم، ومن المُهم فهم الأعراض النشطة والسلبية المرتبطة بهذا المرض: فــ “الأعراض النشِطة هلاوس وأي تصورات حسِّية مثل سماع الأصوات أو رؤية الأشياء، والإحساس بأمورٍ غريبة لا يدركها الآخرون، والضلالات “البارانوية” الاضطهادية، معتقداتٌ ثابتة مؤكَّدة لدى الفصامي وحده، أما السلبية فهي الانكفاء على نفسه.

يُنظر إلى “السيكدزوفرينيا” Schizophrenia على أنه اضطراب فردي، بدون سياق مع البيئة الأرحب، ويحاول المجال الناشئ لعلم الأعصاب الاجتماعي Social Neuroscience، تفسيره في سياق المجتمع، لأن التوافق الاجتماعي، أو انعدامه، هو أحد الأعراض الفصامية، ومن خلال التقييمات المختلفة، تمكن الباحثون من التنبؤ بالتفكير غير المنظَّم للمريض؛ فنحن كبشر، كائنات اجتماعية بالفطرة، موجودة داخل هياكل، تتراوح من الديدان والعائلات إلى المدن والثقافات حول العالم.

إن العوامل المُعطِّلة والمُعوِّقة للمرض، تتمحور حول ذلك الخلل الاجتماعي الذي يعاني منه هؤلاء، خاصةً عندما يبدأون في ملاقاة صعوبات في التعامل مع الآخرين، والدخول إلى بنيات المجتمع الأساسية، هي إحدى العلامات الأساسية في المُعضلة الاجتماعية؛ فالمسافة بين الفصامي والآخر، كيفية وليست كَمِّية، تتأرجح بين دائرتين متصلِّتين من التفاعل الإنساني تُشَكِّلان حلقةً داخلية وأخرى خارجية، الحلقة الداخلية فيها ما بين هزَّاع ونفسه.

وبدلاً من النظرة البيولوجية الأُحادية للفصام؛ فإن الجَدَل يدور الآن، حول أن جزءًا كبيرًا من أعراض الفصام الأكثر هشاشة ينبع من الخلل الوظيفي الاجتماعي، أي صعوبات الفصاميين في الاندماج في الهياكل الاجتماعية، ولهذا تم علاج هزَّاع بالعقاقير وبالسيكودراما حيث واظب على الحضور، وكان بطلًا ومثل مُشارك دور الجرذ، وعبر المشاهد العفوية، اندمج مع الآخرين.. ومع الوقت تزوج وأنجب وصار وزنه مثاليًا.. ظلّ يعاني من الفصام، لكن اختلف نمط حياته تمامًا.