التعايش المرضي مع الفساد الإداري

التعايش المرضي مع الفساد الإداري

«الإكرامية والحلاوة وكل سنة وانت طيب يا بك»، وإذا بدوت غير مهتم أو غير فاهم؛ فلن تمشي أمورك، أما إذا “فتَّحت عينك وفهمت الفولة”؛ فكل أمورك ستسير كالحرير”، وإذا كان طريقك مسدودًا يا ولدي، ولجأت إلى سلطاتٍ أكبر؛ فستكون الحلاوة أكبر، وهكذا تدور في حلقةٍ مُفرغة، لا تستطيع الخروج منها إلا بعد سنوات.

 رواية «المقصوم» للطاهر بن جلون تحمل دلالة فلسفية عميقة، ترتبط بفكرة القدر والتوزيع غير العادل للموارد والفرص في المجتمع، تعكس تشاؤمًا تجاه قدرة الناس على التحكم في مصيرهم، ضمن بيئة غارقة في الفساد والظلم، وتشير إلى أن ما يحدث ليس نتيجة اختيارات واعية فقط، بل أيضًا نتيجة نظام اجتماعي مختلّ يُقسِّم النصيب بطريقةٍ غير عادلة؛ فالأب يُمثل الصراع النفسي بين الأخلاق والاحتياجات، وقبوله للرشوة يعكس هشاشة منظومة القيم في مواجهة ضغوط الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ويظهر هذا في قرار البطل بالانغماس في الفساد رغم إدراكه لعواقبه.

تعكس الرواية رؤية فلسفية لظاهرة الفساد باعتبارها دائرة مفرغة يصعب كسرها، لكن من يُحاربون الفساد يجدون أنفسهم في مواجهة بيئة كاملة تعمل على إعادة إنتاجه، هذا التشخيص يجعل الرواية أشبه بدعوة لفهم هذه الظاهرة كمشكلة منهجية، وليست أخلاقية فقط؛ فعندما يصبح الفساد جزءًا من اللاوعي الجمعي، يعتاد الناس عليه كآلية بقاء، إن تمكين فكرة قبول الشخصيات للرشوة لا كاختيار واعٍ، بل كجزء من القواعد غير المكتوبة للمجتمع.

من ناحيةٍ أخرى فإن البيروقراطية أصبحت بالفعل كمرضٍ مزمن تسللت آثاره إلى هيكل الإدارة والنظام، بحيث تأقلم الناس معه واعتبروه جزءًا من الواقع، كما يحدث في «السلوك المرضي»Illness Behaviour، حيث اعتاد الإنسان على الألم أو السكري أو الضغط وتعايشوا معه بدلًا من محاولة علاجه.

هل أصبح الأمر إدمانًا جماعيًا على القصور؛ فأصبح من العادي قبول الرشاوى، والمحسوبية، وتعطيل المصالح، وكأنها قواعد اللعبة لا استثناءاتها، إن هذا “التعايش المرضي” لا يساهم فقط في بقاء المشكلة، بل يعمِّقها ويجعل إصلاحها أصعب، نظرًا لتشوّه وعي الناس الجماعي، عندئذٍ تُطمس الخطوط الفاصلة بين الصَح والغلط.

إن مواجهة ذلك تتطلب تغييرًا جذريًا في الثقافة الإدارية، وتعزيز قيم الشفافية والمساءلة، جنبًا إلى جنب مع إصلاحٍ جذري في السياسات والمؤسسات.

للأسف فإن الرشوة أصبحت ظاهرة متغلغلة في كافة مستويات الخدمات في مصر، سواء كانت صغيرة أو كبيرة؛ فهي ليست محصورة في المعاملات الكبرى أو القرارات الهامة، بل امتدّت لتشمل أبسط الأمور اليومية، كإنهاء الأوراق الحكومية بــ “إكرامية” لإنجاز المعاملات البسيطة أو لتجاوز الروتين المرهق، كما في الخدمات التعليمية، كدفع “تبرُّع” للحصول على مقعد في مدرسة معينة أو لتجاوز شروط القبول.

إن الرشوة، مهما كانت صغيرة أو تبدو «غير مؤذية»؛ فإنها تُفسد النظام لأنها تضعف الثقة بين المواطن والدولة، وتعزِّز ثقافة الفساد، حيث يصبح الشخص الذي يرفضها يبدو “غريب الأطوار”، كما أنها تُعمِّق الفجوة الاجتماعية، لأن من لا يستطيع دفع الرشوة، يُحْرَم من الخدمات التي يحصل عليها غيره بسهولة.

لا بدّ من الرقابة الإلكترونية والخدمات الرقمية، التي بدأت بالفعل لتقلل الاتصال المباشر بين المواطن والموظف، مع تحسين رواتب العاملين في الدولة لتقليل الدوافع الاقتصادية للفساد.

إن الرشوة ليست مجرد فعل فردي، بل هي عرض لخلل أعمق في النظام الإداري والمجتمعي، ويجب التعامل معها كجزء من إصلاح شامل.

أما عن البيروقراطية؛ فلنا أن نسأل كيف تؤثر البيروقراطية المفرطة على جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية؟ وهل تجعل مناخ الاستثمار أقل جاذبية مقارنةً بدول أخرى ذات أنظمة أكثر مرونة؟ وما هو دورها في تعطيل المشروعات الصغيرة والمتوسطة؟ وكيف تسهم في زيادة التكاليف التشغيلية والوقت المهدور للمستثمرين الصغار؟ وكيف يمكن أن تؤدي إلى تعطيل الإنتاجية في القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة؟ وهل هناك نماذج ناجحة للتخفيف من آثارها في دول أخرى يمكن أن تُحتذى؟ وما تأثيراتها المعرقلة على قدرة مصر على تحقيق التنمية المستدامة؟ وهل هي السبب وراء التأخر في تنفيذ المشروعات الوطنية الكبرى؟ وكيف يمكن أن تساهم البيروقراطية في تعزيز ثقافة “الواسطة والمحسوبية”؟

أعتقد أن طرح مثل هذه الأسئلة، سيساعد على تسليط الضوء على جوهر المشكلة، وتحديد سبُل التغيير والإصلاح بما يخدم التنمية والعدالة الاجتماعية.

Leave a Reply

Your email address will not be published.