تامر محسن، هذا المخرج العبقري الذي أدهش الجميع بآخر أعماله «لعبة نيوتن»، يعود مرة أخرى ليقدم دراما تتناول بعمق العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع المصري، من زاوية الزواج والطلاق والحلال والحرام، ولكن دون صخب أو مبالغات ميلودرامية، لأن أسلوبه يتميز بالهدوء والتأمل العميق، حيث تتناثر داخل القصة الرئيسية مجموعة من قصص الحب الصغيرة، كل منها كاشف لوجه من وجوه الصراع النفسي والاجتماعي بين الرجل والمرأة.
القصة المحورية تبدو للوهلة الأولى صادمة للمشاهد، إذ تدور حول امرأة طُلقت ثلاث مرات وتبحث عن مُحلِّل، لتجد نفسها في علاقة تتحول من كونها صفقة شرعية إلى علاقة حب ثم زواج حقيقي بمعناه الأعمق، لأنه رجل وشهم وعلى النقيض من والد ابنها السيكوباتي أسعد الذي أدّى دوره دياب بمهارة شديدة.
هنا، يأتي المشهد الذي يُلخص رؤية المسلسل كاملة، حين ينطق أسعد، الشخصية الشريرة، بجملته الشهيرة: «أنا اللي بجوز، وأنا اللي بطلَّق، وأنا اللي بسْعِد، وأنا اللي باغْني، وأنا اللي بفقِر»، مُتحدِّثًا بلسان السلطة الذكورية المطلقة، التي تستمد مشروعيتها من عمق اللاوعي الجمعي الذي كرّس هذا التصور. إن هذه الجملة وحدها تكشف عن البنية النفسية المتجذِّرة في العقلية الذكورية السلطوية، والتي ترى المرأة ككيان بلا إرادة، بل مجرد وعاء لرغبات الرجل ومشاريعه.
وحينما تنقلب المعادلة تتبدّل الأدوار، وتبدأ الشخصيات الرئيسية في الهروب والمواجهة؛ فيجد الحبيب نفسه مطاردًا، وكأن كل الشخصيات تتحرك وفق منطق نفسي داخلي يدفعها إلى نهايات محتومة، تتشكل بفعل تفاعل الرغبة مع القيْد المجتمعي.
إن تتر أغنية فريد الأطرش ليس مجرد مصادفة، إنه إحالة ذكية إلى البعد العاطفي الحالِم الذي يختبئ خلف هذه القصة المحتدِمة بالعنف النفسي والاضطراب العاطفي.
وعندما يأتي مشهد النهاية، يعزف فريد الأطرش مقدمة الأغنية على العود، نشعر وكأن هذا الصوت العذب يحاول تخفيف حدّة الجروح التي خلّفَها الصراع، لكنه في ذات الوقت يكشف عن حقيقة مُرّة: الحب، في سياق مجتمع مأزوم، ليس مجرد حالة وجدانية، بل معركة، تتصارع فيها القوى النفسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث لا أحد يخرج منتصرًا تمامًا، ولا أحد يخسر بالكامل.
من أكثر اللحظات تأثيرًا في المسلسل انكسار الشخصية السيكوباتية حين تفشل، فتسقط في دائرة العجز؛ فالسيكوباتي ليس مجرد شرير يتلذّذ بالتحكم في مصائر الآخرين، بل شخص يعاني من اضطراب نفسي عميق، يعتبر أي مقاومة أو فشل في تحقيق رغباته إهانة وجودية، وعندما تنكسر هذه السيطرة، نجد أمامنا شخصية تتداعى داخليًا، غير قادرة على استيعاب القوى الأخرى الأقوى منه، سواء كانت الحب، أو القدر، أو حتى ضعف الضحية السابقة التي أصبحت اليوم أقوى منه.
إن انكسار السيكوباتي ليس مجرد فشل، بل هو انهيار كامل، لأنه لا يعرف كيف يكون شخصًا عاديًا، ولا كيف يتعامل مع عالم لم يعد يخاف منه. وهنا يكمن البعد الأكثر إيلامًا: فهو لا يتعلم، ولا يتغير، بل قد يصبح أكثر خطورة، وأكثر تعطشًا للانتقام، لأنه يرى الذل ليس كعقوبة على أفعاله، بل كظلم وقع عليه، وكإهانة يجب أن يُرد عليها بأي وسيلة ممكنة. وهذا ما يجعل الشخصيات السيكوباتية ليست فقط مثيرة للرعب، بل أيضًا شديدة التعقيد، لأنهم في لحظة ضعفهم يصبحون أقرب إلى القنابل الموقوتة، التي لا تعرف إن كانت ستنفجر، أم ستنهار تمامًا. وهذا بالضبط ما يجعل تامر محسن عبقريًا في رسم شخصياته؛ فهو لا يكتفي بتقديم الشرير كنمط سطحي، بل يغوص في أعماقه حتى نراه في لحظات انهياره، ونكتشف أنه رغم كل ما ادّعاه من قوة، كان في الحقيقة مجرد ظل خاوٍ يبحث عن إثبات ذاته، وعندما فشل، لم يجد في نفسه سوى خواء مؤلم، يُجبره إما على الهروب، أو على السقوط في قاع العدم.
تامر محسن يثبت مرة أخرى أنه ليس مجرد مخرج، بل هو محلل نفسي من طراز فريد، يغوص في اللاوعي الجمعي، يكشف التناقضات بحساسية سينمائية رفيعة، ويجعل من شخصياته مرآة تعكس تعقيدات المجتمع المصري دون صراخ، ودون ابتذال. أما آسر ياسين، بانفعالات وجهه الدقيقة، ومي عز الدين، بعودتها القوية، فقد قدما أداءً يجسد بأمانة هذه العوالم المتشابكة بين القوة والضعف، وبين الرغبة والقيد، وبين الحلم والواقع.
Leave a Reply