في الصباح الباكر، تختلط طشّة الطعمية في الزيت المغلي برائحة الفول، وتبدأ عرباته الفاخرة والمتواضعة في احتلال نواصي الشوارع، لتشُكل مشهدًا يوميًا ثابتًا في الحياة المصرية.. رجلٌ يمد يده بسندوتش فول لأولاده قبل المدرسة، أو عامل يقف في طابور عربية فول منتظرًا سندوتشين يمسح بيهم زوره، قبل أن يدخل عمله المرهق. يبدو كل هذا مألوفًا ومكررًا، لكن ما يُكتَم فلا يُقال أكثر بكثير مما يُرى.
تحت عنوان «ساندويتشات «الفول والطعمية» «ولّعت»» كتبت نجوى قطب المصري اليوم 18-4-2025؛ فقدمت تغطيةً واقعيةً مُرّة من مختلف أماكن المحروسة، قاسية لكنها من رحم الواقع، وذكرت أن انكماشًا قد حدث في حجم طبق الفول وساندويتشه وقرص الطعمية.
والانكماش فعل مزعج؛ فإذا ما شعر الإنسان بتهديد داخلي أو خارجي كالخيبة، والخوف الوجودي، قد يلجأ عقله اللاواعي إلى الانكماش لحماية نفسه؛ فينسحب الإنسان داخل ذاته، ليقلّ انخراطه في العلاقات أو التعبير عن رغباته لتتقلّص الرغبة كأنه يتجنّب الحبّ، النجاح، أو حتى المتعة، لأنه لا يحتمل ألم الفقد أو الخذلان، وتبدأ لغته في الانكماش ليتحدث أقل، ويستخدم كلمات بلا معنى، خوفًا من التعرّي أو الخطأ.
بالطبع ليس كل هذا بسبب تقلص وجبته وغلاء سعرها، لكن لكل الضغوط المحيطة به، ليبدأ الانفصام بين «الذات الحقيقية» و«الذات المتكيِّفة»؛ فالذات الحقيقية.. مشتهاة، متمردة، مليئة بالحياة، تحلم بما كان إفطارًا شهيًا مشبعًا خاليًا من الإحساس بالذنب، والذات المتكيِّفة منكمشة، مؤدبة، خافتة، خلاص ترضى بالأمر الواقع وبقليلها دونما ضجيج أو أنين.
عودة إلى طبق الفول، الذي طالما ارتبط بـ«أكل الغلابة»، لم يعد مجرد طعام يسد الجوع، بل أصبح مرآة تعكس التغيرات الاقتصادية والنفسية والاجتماعية التي تمر بها الأسر المصرية، ومع ارتفاع أسعار الوقود وأسعار الزيت والبوتاجاز، تغيّر شيء؛ فالمائدة التي تنكمش.. والقلوب التي تضيق حين ارتفع سعر أسطوانة البوتاجاز من ٣٥٠ إلى ٤٦٠ جنيهًا، لم يكن التأثير في جيب صاحب مطعم فقط، بل في مطبخ كل بيت؛ فست البيت تحسب الطبخة قبلما تبدأ «لو قليت طعمية الزيت هيخلص، طب أعمل فول بس؟ طب والعيال؟»، وتزداد القسوة حين يدخل الأب البيت في المساء دون أن يحمل ما يكفي ليغطي حتى الإفطار.
هذه الضغوط الاقتصادية لا تقف عند حدود الجنيهات، بل تتسلل إلى العلاقات الإنسانية نفسها، ليزداد التوتر بين الزوجين بسبب «المصاريف اللي ما بتخلصش»، والشعور بالعجز المتزايد، والإحساس الدفين بالذنب.. «أنا مش قادر أأمن مستقبل عيالي». كلها انعكاسات نفسية مباشرة لتآكل القدرة الشرائية، حتى لوجبة شعبية مثل الفول.
أصبحت الطعمية أصغر… وأيضًا الحلم، في الماضي، كانت الطعمية المقرمشة تُقلى بسخاء، ويُهرس الفول بعناية ويُزين بالزيت والكمون والطماطم، ويُؤكل على مائدة فيها ضحك وأمل، أما الآن، فحجم الطعمية تقلّص، وبعض المطاعم تستخدم الزيت مرات ومرات لتقليل التكلفة، وبعضهم يستبدل الزيت النباتي بآخر أرخص جودة، وكل هذا تحت بند «عشان نكمِّل».
وهنا يصبح السؤال سيكولوجيًا، كيف يشعر المواطن حين يرى طبقه اليومي يُقلّص، وجودته تتراجع، بينما جوعه كما هو؟ والفقر لا يقتصر على الجوع، بل يمتد إلى الإهانة النفسية والشعور بالخذلان من المجتمع والحكومة ومن النفس.
عربية الفول.. عرش الغلابة وكرامة المنهكين، مشهد عربية الفول في قلب القاهرة أو الإسكندرية أو أي مدينة أخرى، لا يجب أن يُقرأ فقط كمكان بيع، بل هو تجمّع بشري مليء بالرموز.. العامل المُتعَب، الطالبة المستعجِلة، الأم التي تحاول توفير «سندوتشات ع السريع»، كلهم يتشاركون في حالة عميقة، محاولة التشبث بالحياة الكريمة رغم الضغوط.
إن هؤلاء الناس في الزحام، هم الذين تُضغط أعصابهم يوميًا في المواصلات، وتتسرب من أرواحهم شحنات الإحباط المزمن، ومع ذلك، يقفون ليشتروا الفول لأنهم يؤمنون أن هذا الصباح يمكن أن يُعاش، وأن هذا السندوتش البسيط سيمنحهم لحظة دفء.
الفول كرمز ثقافي.. أداة مقاومة في الثقافة الشعبية المصرية، العِشرة، البساطة، بدأ يتحول لتمثيل لواقع صعب، صار شاهدًا على التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تطحن المواطن البسيط، وفي كل مرة يُقرَّر فيها رفع سعر الوقود أو الزيت أو البوتاجاز، تنكمش وجبة الفول أكثر، وكأنها تقول: «الانكماش اختزال للحلوة والمُرَّة».
الفول في مصر، ببساطة، ليس مجرد أكلة.. بل وجدان وطن.
Leave a Reply