لماذا لا تفي الولايات المتحدة بوعودها؟

لماذا لا تفي الولايات المتحدة بوعودها؟

حين وقف العبقري أوبنهايمر، الذي قاد مشروع مانهاتن، واعترض على إلقاء القنبلة الثانية على ناجازاكي، لم يُكافأ، بل جُرّد من اعتباره العلمي، وطُرد من دوائر النفوذ. قال ترومان، الرئيس الأمريكي وقتها، بحدّة واضحة: «ذلك الرجل البائس يبكي على استخدام القنبلة، لا أريده في مكتبي؟ تخلّصوا منه.» هكذا تحوّل الضمير إلى عبء، وفي زمنٍ أسبق، سأل ضابط أمريكي شاب قائده خلال حروب إبادة الهنود الحمر: «ألم نعدهم بالأرض والحرية؟»، جاءه الرد صارمًا: «من يلوّح بالمبادئ عادة ما يكون مختلًا أو ضعيفًا.»

المبدأ إذًا ليس سوى عاهة في نظر من يملكون السلاح. الوفاء بالوعد علامة اضطراب نفسي، والضمير تهديد استراتيجي. وناجازاكي، تلك المدينة الثانية، لم تكن ضرورة عسكرية بقدر ما كانت عرضًا مسرحيًا لقوة عظمى في وجه الاتحاد السوفيتي. لقد أُحرقت لتكون رسالة. أوبنهايمر فهم هذا جيدًا، وقال: «لقد استخدموا علومي لإثبات الغطرسة.»

من جيرونيمو إلى أوبنهايمر، يتكرّر المشهد ذاته: كل من يحاول أن يُذكّر الدولة بإنسانيتها، يُقصى. من يسأل كثيرًا يُنبذ. من يندم، يُسحق. من الهنود الحمر إلى الشعب الأفغاني والفلسطينيين، من ضحايا فيتنام إلى معتقلي غوانتنامو، ظل الوعد الأمريكي حاضرًا في الخطاب، وغائبًا عن الفعل؛ فلماذا؟

في عصرٍ تتكشّف فيه الوجوه وتتآكل فيه الأقنعة، يعود السؤال المؤلم والمتكرّر إلى الواجهة: لماذا لا تفي الولايات المتحدة الأمريكية بوعودها؟ سؤالٌ ليس نابعًا من حسٍّ قومي غاضب، أو نظرية مؤامرة متهافتة، بل من قراءةٍ متأنية في سجل طويل من الوعود التي أُطلقت… ثم نُقضت.

إنَّ من يراقب السياسة الخارجية الأمريكية سيلاحظ أن الوعد، في بنية التفكير الاستراتيجي، ليس تعبيرًا عن التزام أخلاقي دائم، بل أداة وظيفية تُستخدم لتسكين اللحظة، تهدئة الخصم، كسب الحليف، شراء الوقت، أو إرضاء الإعلام.

وما إن تنتفي الحاجة إلى هذا الوعد، أو تتغيّر المعطيات، حتى يتم التراجع عنه بصيغ مختلفة: «إعادة تقييم»، «تغيير أولويات»، «ظروف خارجة عن السيطرة»، في حين تبقى النتيجة واحدة: نكثٌ بالوعد.

في الديمقراطية الأمريكية الظاهرة، هناك طبقة من السياسيين، رؤساء ومشرّعين، يُصدرون قرارات ويوقّعون معاهدات. لكن في العمق، ثمّة ما يُعرف بـ «الدولة العميقة» وهي تحالف غير مُعلن بين أجهزة الاستخبارات، المصالح العسكرية، واللوبيات الصناعية.

هذه البنية لا تتعامل مع الوعود بوصفها التزامات دائمة، بل بوصفها أوراق ضغط، قابلة للحرق متى اقتضت الضرورة.

منذ تأسيسها، لم تكن الولايات المتحدة دولة تستند إلى عقد أخلاقي شامل، بل إلى مشروع توسّعي يتغيّر باستمرار. نجد أنها تحرّكت دائمًا وفق منطق المصلحة القومية لا وفق منظومة قيم شاملة.

حتى وثيقة «إعلان الاستقلال» نفسها التي تحدّثت عن «الحق في الحياة والحرية، والسعي نحو السعادة»، لم تشمل السود، ولا النساء، ولا الشعوب الأخرى؛ فالحقوق دائمًا كانت نسبية، تُمنح وتُسحب حسب الانتماء والنفع.

وُقّعت أكثر من 370 معاهدة مع قبائل الأمريكيين الأصليين، وتم نقض 100٪ منها تقريبًا. ومنذ وعد «حلّ الدولتين»، مرورًا باتفاقيات أوسلو، ووصولًا إلى «صفقة القرن»، ظلّت الولايات المتحدة تعد بحلّ عادل، بينما تدعم بالسلاح والاستيطان الكيان، في تناقض صارخ بين الأقوال والأفعال.

في أفغانستان: 20 عامًا من «بناء الدولة»، ثم انسحاب مفاجئ خلّف وراءه جيلًا يشعر بالخيانة، ونساءً يُسحقن تحت حكم طالبان، رغم كل الخطابات الرنانة عن حقوق الإنسان.

الولايات المتحدة لا ترى نفسها ملزمة بالاعتذار؛ فالقوة تُبرّر السلوك.

حين قصفت فيتنام بالنابالم، لم تعتذر. وحين دمّرت العراق دون دليل حاسم على أسلحة الدمار الشامل، لم تعتذر.

حين دعمت انقلابات في أمريكا اللاتينية، لم تعتذر. فالوعد، في منطق القوة، ليس ميثاقًا، بل ورقة تفاوض.

يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن الوثوق بدولة تحوّل الوعد إلى سلاح؟

ربما… لكن بشروط: أن يُعاد تعريف العلاقة معها باعتبارها تحالفًا ظرفيًا لا التزامًا أخلاقيًا. وأن نُدرك أن الوعود لا تساوي شيئًا دون أوراق قوة ومصالح متبادلة. وأن نربي أجيالنا لا على الانبهار بالغرب، بل على الوعي النقدي بتاريخ القوة؛ فالذين ينتظرون من أمريكا وفاءً، دون امتلاك أدوات الرد، سينتظرون كثيرًا.

في كل وادٍ رفعت لافتة الحلم الأمريكي، ثم سحبت الطريق من تحت أقدام السائرين إليه، وعلمتنا أن الوعد ليس التزامًا، بل أداة في يد الأقوى.

Leave a Reply

Your email address will not be published.