زمان.. كانت الأنا تُكوّن عبر شبكة علاقات حية، في إطار أسرة، مجتمع، ومؤسسات حقيقية، مع دخول الانترنت وما تلاه، تفككت الأواصر، وأصبح الإنسان يرى الآخر عبر شاشات متبادلة، إن العصر الرقمي، بشبكاته الافتراضية، هزَّ هذا البناء السيكودينامي من جذوره. وأعاد مفهوم «الذات» في اتجاه يُضخّم النرجسية، ويفكك صلابة الهوية، ليتحول الآخر من «مرآةٍ واعية» إلى «سطح لامع مُهَشّم»، وكم من شبابٍ ونساء يجرجرون أقدامهم إلى العيادات النفسية، بإحاسيس مركبة تعكس إحباطًا وألمًا.
إن النرجسية الرقمية ليست مجرد حب الذات؛ بل هي استلابٌ لها في صورة مُلفّقة، ومزخرفة، تبحث عن تأييد فوري، متواصل، وسط جموعٍ مختفية، فيصبح ضحية التنمر والتهميش متعطشًا للانتباه Validation Junkie، يلهث وراء الإعجابات likes، والمشاركات، وكأنها «الدماء النفسية» التي تغذي هشاشته الداخلية.
إن الآلية الأساسية هنا، هي اختلال علاقة الذات بالآخر، حيث لم يعد الآخر حقيقيًا بما يكفي كي يحدث تصحيحًا نرجسيًا narcissistic correction، بل صار مستهلِكًا لصورة الذات أو متفرجًا عليها. وهكذا يغيب التصحيح الواقعي، وتتعزز التمركزية حول الذات، عبر قنواتٍ خادعة. ليعيش الفرد في علاقة مع صورته، لا مع ذاته ولا مع الآخر.
أما منظور علم النفس الاجتماعي، فإن هذا النمط لا ينمو في فراغ. إن البيئة الرقمية، بقوانينها، قد رسخت قيمًا جديدة، كالسطحية على حساب العمق، الكمية على حساب النوعية، السرعة على حساب التأمل، والحضور اللحظي على حساب الاستمرارية؛ فتتعزز بذلك خصائص اضطرابات الشخصية النرجسية في البنية الاجتماعية، وتتحول إلى ما يشبه «الوباء الصامت».
في مصر والدول العربية، تأخذ هذه الظاهرة أبعادًا أكثر حدة، بسبب التركيبة الاجتماعية والنفسية الخاصة، لأننا بحكم الضغوط الاقتصادية، والارتباك السياسي، والتغيرات الثقافية السريعة، نشهد فراغًا وجوديًا، وانهيارًا تدريجيًا للمرجعيات التقليدية كالأسرة الممتدة، الدين، والقومية، هذا الفراغ يولّد حاجةً محمومة إلى إثبات الذات، والرقمنة توفر مسرحًا مثاليًا لذلك، ولكن على نحوٍ زائف.
كما أن الثقافة السائدة تميل إلى التقييم الاجتماعي عبر «العيون الخارجية» تُرى ماذا سيقول الناس؟، مما يجعل الأفراد أكثر قابلية لأن يستمدوا قيمتهم من الخارج، لا من بناءٍ داخلي صلب، وهنا تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دور «القاضي الأعلى»، الذي يحكم على كل شيء.. الشكل، الآراء، الإنجازات، وحتى الأحزان والمآسي. وفي ظل تراجع المساحات العامة الحرة كالمراكز الثقافية، والنوادي الفكرية، والحوارات الحقيقية، انكفأ الشباب على العالم الافتراضي كوسيلة وحيدة للظهور. هنا.. أصبح «الترند» و«اللايك» بديلًا عن الاعتراف الحقيقي بالإنجاز.
في مصر، مثلًا، نرى بوضوح كيف أن منصّات مثل تيك توك، إنستجرام، وفيسبوك، باتت مسارح يستعرض فيها الأفراد نسخًا مصطنعة من أنفسهم، ويسعون لاصطياد انتباه سريع وعابر، ولم يعد الأمر مقصورًا على جيل الشباب؛ بل طال الشرائح العمرية الأكبر، بحيث أصبحت النرجسية الرقمية ظاهرةً عابرة للأجيال.
إن النرجسية الجماعية قد تفشت؛ فليس الأفراد هم فقط الذين يضخمون ذواتهم، بل هناك تضخيم مصطنع للجماعات، والعائلات، والمدن، وحتى الدول، عبر منصات التواصل، في شكل تنافسي استعراضي أحيانًا ما يكون فجًّا، بأن يتم استدعاء رموز تاريخية أو انتصارات رياضية، أو أحداث سطحية للتفاخر اللحظي، بدلًا من بناء هوية جمعية صلبة وهادئة.
هذه النرجسية الرقمية لها ثمنٌ باهظ؛ فعلى المستوى الفردي يشعر الإنسان تدريجيًا بالفراغ الداخلي، وبالتعلُّق المرضي بالتقدير الخارجي، مما يفاقم القلق، والاكتئاب، واضطرابات الصورة الذاتية. كما تتآكل قدرته على بناء علاقاتٍ عميقة ومستقرة. وعلى المستوى الاجتماعي تفقد المجتمعات قدرتها على الحوار العميق، ويُستبدل العقل النقدي بعقل انفعالي يبحث عن الإثارة السريعة، ويصبح الوعي الجمعي هشًا، عُرضةً للدعاية، والشائعات، وثقافة الإلغاء. وعلى المستوى السيكودينامي السياسي؛ فإن النرجسية الرقمية تُعَزِّز حالة «القطيع»، حيث تذوب الذوات الفردية داخل موجاتٍ سريعة من الغضب أو الحماس، دون تفكيرٍ أو تحليل.
إن نرجسية العصر الرقمي، من منظور سيكودينامي اجتماعي، تمثل تحديًا وجوديًا للفرد والمجتمع العربي على حدٍ سواء، ولإعادة التوازن يجب استعادة قيمة «الذات الحقيقية» عبر التربية العاطفية السليمة، وإعادة بناء المساحات الحوارية الحقيقية، وتعزيز ثقافة النقد الذاتي، بدلًا من اللهاث وراء القبول السريع والعابر.
ربما نحتاج أن نُعيد النظر في سؤال بسيط وحاسم، هل أنا موجود لأنني حقيقي، أم فقط لأن الآخرين يرونني عبر الشاشة؟
هنا يكمن جوهر المعركة القادمة.
Leave a Reply