كل صباح، وقبل أن تكتمل قهوة اليوم، يقف العالم أمام مرآته ولا يرى شيئاً. فقط وجوهٌ بلا ملامح، شاشات تُعِدُّنا للدهشة، ونشرات لا تتغير إلا بأسماء المدن الجديدة التى تُذبَح.
كل مساء، وقبل أن ينطفئ آخر نور فى الشارع، تُرمى جثثٌ جديدة فى نهر التاريخ؛ فيجرفها معه، والإنسان.. ذلك الكائن الذى ادّعى أنه تجاوز الوحش، يواصل التظاهر بأنه مشغول، وأن الدم الذى يُراق ليس دمًا، بل خبرًا، مادة تحليل، أو فرصة للحديث عن الجغرافيا والسياسة على المقاهى والهواتف.
بحورٌ من الدم تجرى، تحت شرفاتنا، فى «العالم الحقيقى»، وليست فى فيلمٍ عن نهاية العالم.
فى أوكرانيا تُقطع الحياة مع كل طلقة على حافة الخنادق، فى روسيا تُعاد صناعة الجنائز الوطنية تحت شعارات المجد القديم، فى الفاشر ودارفور يُذَبَّح القحط ويُصلَب الجوع، ويتحِّد السكين مع القبيلة، فى مشهد هو الأكثر بدائية فى عالم يتظاهر بالحداثة، وفى غزة.. حيث لا يحتاج الجُرح إلى تعليق، ولا إلى مقدمة فلسفية؛ فغزة الآن هى جرح العالم المفتوح، بطن الإنسانية المشقوقة، المكان الذى تذهب إليه الكلمات كى تموت من العجز والخجل.
ليس أمامنا جيشٌ وجيش، بل حياةٌ تُسلَخ كل يوم. طفلٌ يلتقط قدمًا بلا جسد، أمٌ تبحث فى كومة لحم عن إصبع صغير تعرفه أكثر من نفسها، رجلٌ يحمل رأسًا بلا جسد، ويركض به كأنه يحمل طفله، وكأن الوجود كله لحظة واحدة لا تتكرر.. لحظة إنقاذ ما تبقى من معنى.
هذا السؤال الذى لا يجيب عنه أحد. ليس لأن الإجابة مستحيلة، بل لأننا تخلينا عن السؤال قبل أن نطرحه.
لا يبحث عالم اليوم عن الأخلاق، بل عن توازن القوى. لا يسأل: «من يموت؟»، بل «هل نتدخل؟ هل نخسر؟ هل نربح؟ وكم ستكلف هذه الجثة فى بورصة الأمم؟».
نحن لم نعد نشاهد الحرب، نحن نتعايش معها، نأكل ونحن نرى رؤوسًا تُسحق، نشرب قهوة ونقرأ عن أطفال يتخثر دمهم تحت الأنقاض. ثم نحرك الشاشات بإصبع متعجل، كما نضع «رِجل على رِجل»، ونعدِّل جلستنا: «آه… الخبر اللى بعده». متى أصبح الألم خلفية ضوضاء لا أكثر؟ متى تحولت المأساة إلى موسيقى تصويرية للترفيه اليومى؟ لا شىء أكثر قسوة من اعتياد الدم؛ فالوحش لا يحتاج أن ينقضّ علينا؛ يكفى أن ينام فى داخلنا بهدوء.
فى غزة، الطفل الذى يركض خلف أمه لا يعرف ما هى الحرب، لكنه يعرف كيف وأين يختبئ. فى أوكرانيا، الفتى الذى يجرّ قدمه الصناعية لا يسأل: «من بدأ أولاً؟» فى دارفور، الطفلة التى يلتصق جلدها بعظمها لا تحتاج شرحًا عن جغرافيا النزاع. وفى روسيا، الشاب الذى يعود بتابوت ملفوف بعلمٍ لن يصل صوته ليقول: «لم أرد أن أكون بطلًا، أردت فقط أن أعيش».
هناك لحظة نادرة، حين تنطفئ المدينة وتخفت الضوضاء، يستيقظ صوتٌ ضعيف داخلنا: صوتٌ خائف، يسأل: «هل ما نراه طبيعى؟»، لكن هذا الصوت لا يعيش طويلًا. يقتله الصباح، تقتله الأخبار، ويقتله الروتين.
إن السكين لا يحتاج أن يخترق أجسادنا كى يؤلمنا؛ يكفى أن يمر فى روحنا كل يوم ولا ننجح فى الصراخ. هناك قتلى فوق الأرض، وهناك قتلى بيننا يمشون ويتنفسون ويبتسمون ويشربون قهوة. قتلى ماتت إنسانيتهم ولم ينتبهوا.
ربما يحتاج العالم لأن يلمس قاع الوحش داخله كى يبدأ الصعود. ربما يرى طفلًا واحدًا يضحك وسط الأنقاض؛ فيتذكر أنه كان طفلًا يومًا. ربما يسمع أمًا تبكى بلا صوت؛ فيعود إليه صوته. ربما يفهم يومًا أن القوة الحقيقية ليست فى الصاروخ، بل فى القدرة على عدم إطلاقه. ربما يكون الأمل ممكنًا، لكن ليس بالخطابات ولا بالاتفاقيات. الأمل يبدأ حين يعرف الإنسان أن قلبه لا يجب أن يعتاد الدم.
فى عالم يمشى على أطراف جثثه، لا توجد نجاة فردية، ومن يظن أن الدم لا يصله لأنه يعيش فى مدينة ناعمة، ينسى أن الدم ليس ماءً، بل لغة. ينتقل فى الهواء والمشهد والذاكرة، وكل ما نراه يُرَسّخ داخلنا. كل جثة تُترك فى الشارع، تُدفَن فى روح أحدنا أيضًا، والعالم لن يستعيد إنسانيته إلا حين يدرك هذه الحقيقة البسيطة: لا أحد ينجو وحده.
وحتى ذلك الحين.. ستظل بحور الدم تَمُور.

Leave a Reply