أخلاق الانضباط بين مصر والصين.. حين يتكلم الأب الداخلي

أخلاق الانضباط بين مصر والصين.. حين يتكلم الأب الداخلي

لا يكاد يخلو نقاش عام في مصر، رسميًا كان أو شعبيًا، من ترديد عبارة «الأزمة الأخلاقية». لكن ما يغيب غالبًا هو السؤال عن جوهر هذه الأخلاق، وعن القيم التي نادراً ما تُذكر، مثل الانضباط والعمل الجاد.

الأخلاق عندنا تُستدعى عادةً في سياق «الخطر على الهوية»، و«الغزو الثقافي»، أو «الحداثة المهدِّدة». أما أخلاق الانضباط؛ فتظل غائبة عن الخطاب، كما لو كانت مسألة تقنية أو بيروقراطية، لا صلة لها بجوهر «الأزمة».

قرأتُ مؤخرًا مقالًا مهمًا لمارك مجدي في المصري اليوم، يقارن بين مصر والصين في هذا الباب، ويُرجع الفارق إلى التقاليد الكونفوشيوسية من جهة، والبنية المؤسسية للدولة الإمبراطورية من جهة أخرى.

وأنا إذ أتفق مع كثير مما ورد فيه، أود أن أذهب خطوة أبعد: أن نقرأ هذه المسألة سيكوديناميًا، وأن نضع الكونفوشيوسية «تلك الفلسفة التي أحببتها منذ 60 عامًا» في قلب النقاش، ليس فقط كتاريخ سياسي أو فلسفي، بل كبنية نفسية لاواعية صنعت «الأب الداخلي» في الصين، وغاب عندنا في مصر.

الكونفوشيوسية ليست مجرد تعاليم أخلاقية؛ إنها منظومة نفسية اجتماعية، صاغت رؤية كاملة للإنسان وعلاقته بالجماعة. لا يكتمل فيها الفرد إلا في إطار العائلة والمجتمع. الطاعة ليست خضوعًا مهينًا، بل «انسجامًا» مع نظام أوسع، يشمل الدولة والكون نفسه.

هذا التأسيس منح الصيني أنا أعلى مستقرًا.. سلطة داخلية تذكّره دومًا بأن الانضباط فضيلة، وأن الطاعة للنظام مشاركة في حفظ الانسجام الكوني. لذلك لم يعد الانضباط وظيفة الشرطة أو الدولة فقط، بل صار قيمة داخلية، تنعكس في تفاصيل الحياة اليومية.. من عبور الشارع إلى الانخراط في البيروقراطية، إلى الإقبال على العمل.

حين كنت مراهقًا أتعرف على الفلسفات الشرقية، شدّتني تلك النقطة: أن الأخلاق ليست وعظًا دينيًا أو أمرًا خارجيًا، بل «تربية للنفس» حتى تصير متناغمة مع الكل. وهذا ما منح الكونفوشيوسية جاذبيتها لي، وما جعلني أُقدّرها حتى اليوم.

الميثولوجيا الصينية رسّخت المعنى ذاته.. أسطورة «بانكو» الذي فصل السماء عن الأرض من رحم الفوضى، تُعيد إنتاج فكرة أن النظام شرط الوجود. فالتنين الإمبراطوري لم يكن وحشًا مُخيفًا، بل رمزًا للسيطرة على قوى الطبيعة وحفظ التوازن.

هكذا صار الانضباط في المخيال الجمعي تكرارًا لفعل الخلق الأول. من يلتزم بالقوانين ليس مجرد موظف مطيع، بل «بانكو صغير»، يشارك في منع الفوضى من ابتلاع العالم.

سيكوديناميًا، هذا يعادل أن الأنا الأعلى في الصين ليس قاهرًا خارجيًا، بل «حامٍ داخلي»؛ أبٌ عظيم وراعٍ حنون، يُطالب بالطاعة لكنه يمنح الانتماء والأمان.

لم تقف الكونفوشيوسية عند حدود الفلسفة، بل تجسّدت في المؤسسة. فالامتحانات الإمبراطورية التي بدأت قبل أكثر من ألف عام، لم تكن مجرد وسيلة للتوظيف، بل آلية لصناعة مواطن منضبط. النجاح فيها صعب، والقبول في الجهاز البيروقراطي مشروطٌ بالكفاءة والمعرفة، لا بالولاء الشخصي.

منذ ذلك الحين، صار الانضباط بوابة الصعود الاجتماعي والسياسي. ومن هنا تشَكّل الرابط السيكولوجي بين الطموح الفردي والانضباط الجمعي: من أراد أن يترقّى عليه أن يطيع القواعد، وأن يُتقن النظام.

حتى الثورة الشيوعية بقيادة ماو لم تخرج عن هذا الإطار. بل أعادت صياغة الانضباط في صورة انضباط ثوري، حيث تماهت الوطنية والحزب والمجتمع في قالب واحد. وفي الطفرة الاقتصادية لاحقًا صار الانضباط شعارًا: «الانضباط من أجل الصعود».

أما في مصر؛ فالقصة مختلفة. الدولة المركزية وُجدت منذ الفراعنة، وكانت أبوية وريعية أكثر منها بيروقراطية كفؤة. فالطاعة هنا لم تُزرع في الداخل كقيمة، بل فُرضت من الخارج كقهر. فلم نعرف امتحانات على النمط الصيني، بل عرفنا الوساطة والولاء الشخصي.

سيكوديناميًا، أنتج هذا علاقة مع السلطة أقرب إلى علاقة مع «أب غائب أو متقلِّب أو مهزوم». حين يحضر بقوة يفرض الطاعة، وحين يضعف ينهار الانضباط ويُستعاض عنه بالتحايل أو الفوضى.

إذن لم يتكوّن لدى المصري «أنا أعلى انضباطي» راسخ، بل «أنا أعلى ظرفي»، يتلوّن بحسب حضور أو غياب السلطة. لذلك نطيع في لحظة الحرب أو التعبئة، ثم نعود للتحايل حين تهدأ العاصفة.

في الصين: الأخلاق = انسجام + عمل + انضباط.
في مصر: الأخلاق = هوية + طقوس + دفاع ضد الآخر.

هل لنا أن نصنع من جديد، عقدًا اجتماعيًا أكثر إنسانية وعدلاً؟

Leave a Reply

Your email address will not be published.