الإدمان.. مأزق مجتمعي وطبي وفلسفي

الإدمان.. مأزق مجتمعي وطبي وفلسفي

“هل الإدمان مرض دماغي؟ “عشان كده لازم تعمل دماغ؟”، إن المسألة ليست بهذه البساطة؛ لأن للأمر أوجه كثيرة؛ فتلك “السعادة” التي تعطيها المخدرات للمُتعاطين والمُدمنين غامضة، لأن السياق الاجتماعي والاقتصادي لتعاطي المخدرات، أو ذلك الشعور بالعجز والتشاؤم لدى المدمنين أنفسهم، يجب وضعه في الاعتبار

لا توجد إجابة واحدة بسيطة أو سهلة، عن سبب استمرار البعض في تعاطي المخدرات، على الرغم من العواقب السلبية في حياتهم، كما تقول الفيلسوفة حنا بيكارد بروفيسور علم النفس الأخلاقي Moral Psychology بجامعة جون هوبكنز بأمريكا: “سنجد مجموعة من الأسباب تختلف مع كل شخص وكل مخدر وكل ظروف مُحيطة به”.

يبزغ هنا مصطلح «عدم التجانس» في بحث عن إدمان المخدرات؛ فلا توجد حالتان متشابهتان تمامًا، ولا ينبغي أن نتوقع تطبيق تفسير واحد للإدمان عالميًا، وإحدى مزايا هذا المنهج النظري أنه يتماشى بشكل أفضل مع أعراف العلاج في المصحة والمصمم خصيصًا لكل فرد على حدة،

لكن كيف نعرف الإدمان؟ تتساءل بيكارد: “إنه اللغز؛ فقبل تطور الإدمان، لِمَ كان يتعاطى الناس المخدرات، يخبرك المدمنون لأنها مصدر للمتعة؛ والتخفيف من الألم والتوتر والمعاناة الحياتية؛ أو الوعد بتجارب إيجابية جديدة، كالارتباط الاجتماعي أو التحول المزاجي، وعلى النقيض من ذلك، يرتبط الإدمان بمضاعفاتٍ مفجعة ومدمرة للحياة؛ كفقدان العائلة والأصدقاء والوظائف والمدخرات والصحة، وهذه المضاعفات تفوق أي متعة أو إحساس مزيف لحظي بالبهجة، إذن لماذا يستمر الناس في تعاطي المخدرات، هل هي العبثية؟

تدّعي حنا بيكارد أن الاعتماد الجسدي على المخدرات ومفهوم الإدمان أمران مختلفان، ولكن متى يصبح تعاطي المخدرات إدمانًا؟ بشكل عام لا توجد مشكلة في التشخيص، لأن الجميع يتفقون، لكن قد يكون هناك خلاف حول ماهية القيم بين الأشخاص الذين يتعاطون المخدرات وأسرهم وأصدقائهم وأطبائهم والمجتمع الأوسع والدولة، قيم من؟ الشخص نفسه، يحدث الإدمان عندما يصبح استخدام الشخص للعقار شيئًا يتعارض مع قيمه الحقيقية، ويكوِّن هذا عقيدة أساسية للرعاية التي تركز على المريض كإنسان مُتفرِّد بطبعه، لا كمدمن من المدمنين “كلهم زيّ بعض”، ولاستمرار مسيرة التعافي ينبغي على المريض نفسه أن يرى ويعتقد، أن تعاطي المخدرات يُمثِّل مشكلة عويصة ومُدمِّرة لحياته.

لكن الدفاعات النفسية المختلفة، كالإنكار، وانعدام الوعي والإدراك بالمشكلة، والأفكار المغلوطة والاكتئاب الكامن، والاعتمادية على المُخدِّر والاعتمادية المتواطئة أي أن الزوجة أو الأم مثلًا تتعاطف وتتوحد مع المدمن وفي حالاتٍ قُصوى قد تجلب له المخدرات، رحمةً له من عذابات وجحيم انسحاب المخدر من جسده، وصدمات الطفولة، والقنوط من المستقبل، والإحساس بأن “السكينة سارقاه” Autopilot ، يمكن أن تجعل من الصعب جدًا، معرفة متى يعتبر المدمن أو المُتعاطي في مأزق قِيَمي، بمعنى أن الإدمان ليس مرضًا نموذجيًا يتم تحديده وتشخيصه، على أنه من أمراض الدماغ الأساسية، لأن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.

والسؤال الحيوي الآن، هل هناك اختلاف جوهري بين الاعتماد الجسدي والإدمان؟ أن التبعية الجسدية للمخدِّر ليست ضرورية ولا كافية لتعريف الإدمان، لأنه حالة تشمل الماضي والحاضر، التحقق الأسري والسعادة المُجتمعية، الإشباع والاحتراق الوظيفي، والإحساس المُدَمِّر بالظلم، كنتيجة للفساد المؤسسي والواسطة والمحسوبية، وعفن العلاقات الشائهة داخل أروقة العمل والسكنى والشارع، وربما العِنّة الجنسية والعِلّة النفسية.

من الممكن للبعض أن يعتمدوا جسديًا على عقار ولكنهم لن يُصَنّفوا كمدمنين؛ كالمرضى الذين يتناولون وصفات أفيونية طويلة الأمد ومسكنّة للألم المزمن، يعتمدون عليها جسديًا، وإذا تم تخفيض وصفتهم الطبية أو إيقافها فجأة، سيعانون من أعراض الانسحاب مع ألم المرض المزمن، ولكن في الوقت نفسه، قد تكون وصفتهم تلك هي ما يمكّنهم من العمل بفاعلية والعيش حياة معقولة.

هل للأدوية دور في علاج الإدمان؟ فكرة أن «العلاج» الذي لا يمكن أن يأتي إلا من طبيب يصف الدواء، ومن المؤكد أن العلاج بمساعدة الأدوية، جزء حيوي من العلاج الفعال في كثير من الحالات، ويجب تقديمه دون قيد أو شرط كلما كان ذلك ضروريًا وممكنًا، المحبط هنا رؤية هذا «العلاج» مُعتمدًا على الطبيب وما يصفه؛ فإذا كنت مدمنًا، فلا بدمن تغيير علاقتك بالمخدرات، وهي عملية طويلة ومعقدة، تتضمن أكثر من مجرد دواء، أي الدعم الاجتماعي من الآخرين، وفرص للتعلُّم والتأهيل والعمل، وحتمًا التصميم الحازم والالتزام بالتفاؤل الحَذِر.

Leave a Reply

Your email address will not be published.