في أعماق كلّ إنسان، حيث لا يصل الضوء ولا يُسمَع الصوت، تدور معركة خفية بين جزيئات صغيرة تُنظّم حياتنا الداخلية.. موادّ كيميائية تُفرزها خلايا الدماغ، تتبادل الإشارات، توزّع الطاقة، تقرّر المزاج، وتوجّه الانفعالات. نحن نظنّ أنّنا نختار، نغضب، نحبّ، نثق، نحزن، لكن الحقيقة أنّ خلف كلّ إحساس قرارٌ كيميائيّ دقيق، يُشبه لوحةً موسيقية يعزفها الدماغ في لحظات الصعود والهبوط. تلك الحالة الدقيقة التي تُعرف باسم «التوازن العصبي الكيميائي» Neurochemical Homeostasis، وهي المفتاح لفهم الإنسان بين جسده وروحه، وبين علمه وغموضه.
التوازن العصبي الكيميائي ليس حالة سكون، بل تفاعل مستمر بين عددٍ من النواقل العصبية والهرمونات التي تُفرزها مناطق مختلفة من الدماغ، وأحيانًا من الغدد الطرفية. إنه حالة ديناميكية يسعى فيها الجسم إلى الانسجام بين هذه المواد، بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، لأن أي اختلال بسيط ينعكس على مشاعرنا وسلوكنا ونظرتنا إلى العالم؛ فالإنسان في جوهره كائن كيميائيّ، يتشكّل مزاجه من نسبٍ دقيقة من السيروتونين والدوبامين والكورتيزول، تمامًا كما يتشكّل الطقس من حرارة وضغط ورطوبة.
وفي اللحظة التي يختلّ فيها هذا التوازن، تتحوّل الطمأنينة إلى قلق، والثقة إلى شك، والغضب إلى انفجار.
«السيروتونين».. كيمياء الطمأنينة والاتزان، الناقل العصبي الذي يمنحنا الشعور بالرضا والاستقرار والهدوء الداخلي. حين تكون مستوياته طبيعية، نشعر بالأمان ونستطيع مواجهة الحياة دون قلق زائد. لكن حين ينخفض، نغرق في المزاج الكئيب والوساوس وفقدان المعنى.
«الدوبامين».. كيمياء الدافع والمكافأة، الوقود الذي يدفعنا للإنجاز والتجربة والاكتشاف. ارتفاعه يمنح نشوة، حافزًا، تركيزًا، أما اختلاله فيؤدي إلى فقدان الشغف أو اندفاع قهري نحو اللذة، إنه المارد الذي يربط بين الثقة بالنفس وبين القدرة على تحقيق الأهداف.
«النورأدرينالين».. كيمياء الانتباه والتأهّب، ويُعدّ جزءًا من منظومة الاستجابة للضغوط، يرفع درجة اليقظة ويُساعد على اتخاذ القرار السريع. لكن زيادته المستمرة تخلق توترًا، وتُحوِّل الحذر إلى قلق دائم.
«الكورتيزول».. كيمياء النجاة والخوف، هرمون التوتر الذي ينقذنا في لحظة الخطر، لكنه إذا استمر في الارتفاع دمّر النفس والجسد، ضروري للنجاة، لكنه سامّ حين يتحوّل إلى رفيق دائم.
«الأوكسيتوسين».. كيمياء الحبّ والثقة، هرمون الارتباط والتعاطف، يُفرز عند العناق، الرضاعة، التفاعل الاجتماعي الدافئ. الذي يجعلنا نثق، نتعاطف، نشعر بالانتماء. انخفاضه يجعل الإنسان منغلقًا، شاكًا، فاقدًا للحميمية.
«الأسيتيل كولين».. كيمياء التركيز والتعلّم، يساعد في ترسيخ الذاكرة، ويُنشّط القدرة على الفهم والتفكير المنطقي، وهو العامل الذي يجعل العقل «حاضرًا في التجربة».
تعمل هذه المواد مثل أوركسترا متكاملة، إذا عزفت بتناغم نعيش حالة من الصفاء والتوازن، أما إذا تعارضت اختلّ المزاج واضطرب الإيقاع النفسي.
كلّ اضطراب نفسي أو مزاجي هو في عمقه اضطراب كيميائي دقيق. الغضب ليس مجرّد انفعال؛ بل ارتفاع مفاجئ في الكورتيزول والأدرينالين، مع انخفاض السيروتونين. والقلق المزمن هيمنة مستمرة للنورأدرينالين والكورتيزول. أما الشك وفقدان الثقة فقد يرتبطان بانخفاض الأوكسيتوسين والدوبامين. حتى الإحباط الوجودي الذي يجعل الإنسان يتساءل «ما جدوى الحياة؟» قد يكون نتيجة عطب في كيمياء المكافأة.
إن الدماغ، مثل الاقتصاد، يحتاج إلى توازن العرض والطلب. كلّ تجربة حياتية، من الحب إلى الخسارة، من الخوف إلى الانتصار، تُعيد ترتيب هذه الجزيئات في معادلة جديدة. والتاريخ الشخصي لكلّ إنسان يترك بصمته الكيميائية؛ فالطفل الذي ينشأ في بيئة آمنة يُطوّر منظومة سيروتونين وأوكسيتوسين مستقرة، بينما من عاش الخوف والإهمال يُصبح جهازه العصبي في حالة «تأهّب دائم».
الجميل في التوازن العصبي الكيميائي أنه قابل للاستعادة؛ فالجسد لا يعمل ضدنا، بل معنا. إنه يطلب شروطًا بسيطة؛ كالنوم العميق المنتظم، ففي أثنائه تُنظّم مستويات السيروتونين والدوبامين، وتقل إفرازات الكورتيزول، والغذاء المتوازن الذي يحوي الفيتامينات والمعادن، وكلها مواد تدخل مباشرة في تركيب النواقل العصبية.
الدماغ لا يصنع شيئًا من لا شيء؛ يحتاج إلى مواد خام. التمارين الهوائية ترفع السيروتونين والدوبامين وتُقلّل الكورتيزول، إنها ليست ترفًا بل علاج كيميائي طبيعي.
العلاقات الإنسانية الدافئة.. العناق، التواصل، الكلمات الطيبة، كلها تُعيد الثقة إلى النفس والعالم، والضوء الطبيعي والهواء النقي يُنعش الدماغ. حتى لحظة التأمل أمام شجرة أو بحر هي فعلٌ كيميائيّ في العمق. والروح التي تجد معنى لحياتها تُهدّئ الدماغ، كما أن الإيمان، التأمل، الفن، والكتابة… كلها طرق لإعادة الانسجام الداخلي.

Leave a Reply