«الصغير هو».. بحث عن الذات تحت وابل الرصاص

«الصغير هو».. بحث عن الذات تحت وابل الرصاص

كتب أحمد الدريني في المصري اليوم 26-5-25 «هل يمكن السيطرة على جيل Z أثناء الحرب؟ أبرز حالة الجندي الصيني المعروف بـ«الصغير هو»، الذي وُلد عام 2005، وشارك تجربته القتالية عبر منصة Douyin، مما جذب انتباه الإعلام والرأي العام. وأشار المقال إلى أن أوكرانيا تمكنت من تحديد هوية 155 مقاتلًا صينيًا في صفوف الروس، مما يعكس التحديات التي تواجهها الجيوش في عصر المعلومات والتواصل الفوري».

حين نضع في الاعتبار أن «الصغير هو» من مواليد 2005، فإننا أمام شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، أي أنه في مرحلة ما بعد المراهقة، حيث تكون الهوية النفسية ما زالت في طور التشكل. من منظور إريك إريكسون، نحن أمام صراع وجودي بين تشكيل الهوية والاغتراب الذاتي، لأن اختياره للحرب لم يكن خيارًا عمليًا أو اقتصاديًا، بل هو مسرح رمزي للبحث عن «معنى» في واقع يفتقر للثوابت. بمعنى آخر، الحرب تمثل له اختبارًا قاسيًا لرجولته ووجوده. هو لا ينضم فقط ليقاتل، بل ليُعْرَف، ليُرى، ليُسجّل. وحين يقوم بتوثيق تجربته على وسائل التواصل، فإنه يصرخ من داخل لاوعيه: «أنا هنا، لا تتجاهلوني».

إن الاهتمام المفرط بنقل صور القتال والمشاهد الدرامية عبر وسائل التواصل يمكن قراءته كنوع من التعويض النرجسي، فمن المنظور السيكودينامي، لا تعني النرجسية هنا حب الذات، بل هي محاولة لتغطية هشاشة داخلية وشعور دفين بعدم الكفاية. يبدو أن «الصغير هو» لم يلقَ الاعتراف أو الاحتواء في بيئة أسرية أو تعليمية حاضنة، لذا يطلب الاعتراف من جمهور مجهول عبر الشاشة، وكلما ازداد الخطر في الجبهة، ازداد شعوره بأن هناك بطولة داخلية تُطبخ أمام عدسة الهاتف.. بطولة لا يصدقها تمامًا، لكنه بحاجة لأن يراها الناس حتى يصدقها هو نفسه.

من ناحيةٍ أخرى نحن لا نعرف تفاصيل خلفية «الصغير هو» الأسرية، لكن من الناحية الرمزية، قد تُعدّ الحرب بديلًا عن الأب الغائب، سواء بالمعنى الواقعي «وفاة، غياب، تفكك أسري»، أو الرمزي «أب غير متاح عاطفيًا». يخوض «الصغير هو» حربًا في الخارج ليحارب فراغًا في الداخل. إنه يقاتل لينال السلطة، ليحتل موقعًا افتقده في طفولته، وكأن لسان حاله يقول: «إن لم يكن لي أب أستند إليه، فسأصنع من الرصاص أبوةً مزيفة».

حين يتماهى الشاب مع صورة «القاتِل المُقاتِل» وينشرها، فإنه يمارس نوعًا من التحول الدفاعي، حيث تتحول الضحية الكامنة داخله إلى جلاد متماسك، لا يشعر ولا يتألم. إنها ميكانيكية دفاعية بدائية، تجعل «الصغير هو» يسيطر على قلقه الداخلي من خلال التماهي مع العنف، لا للهروب فقط من الموت الخارجي، بل من هشاشة وجوده الداخلي. هذا السلوك يُشبه ما وصفه فرويد في ميكانزم «التكوين العكسي» Reaction Formation، حين يتحول الخوف إلى عدوان، والضعف إلى قسوة.

في لحظة ما، يتحول الجندي المراهق إلى شخصٍ يتغذّى نفسيًا من الاقتراب المستمر من الموت. فكل طلقة تُطلق، وكل قذيفة تنفجر، تعزِّز لديه وهمًا بأنه أقرب إلى الحقيقة، الأكثر وجودًا. وكأن الموت أصبح هويةً بديلة، وصار توثيقه بمثابة شهادة على أنه «كان موجودًا بالفعل».، إنها لحظة تتقاطع فيها العدمية الوجودية مع الرغبة الطفولية في الحب والقبول.

إن ما يفعله «الصغير هو» هو أكثر من مشاركة مقاطع فيديو؛ إنه يكتب سرديته الذاتية في زمن فقد فيه الجيل الجديد السرديات الكبرى؛ فمن خلال عدسة هاتفه، يحاول أن يكون بطلًا في رواية ليس لها كاتب. إنها محاولة مستميتة لأن يوجد في عالم لا يعترف بوجوده، وهنا تكمن المأساة السيكودينامية الأعمق.

في العمق النفسي، لا تُفهم النرجسية بوصفها ثقة مفرطة بالنفس، بل كقناع دفاعي صلب يُرتدَى فوق هشاشةٍ دفينة، تُحجب فيها مشاعر العجز، الدونية، والرفض؛ فالطفل الذي لم يُحتضن، والذي لم يُرَ فعلًا، لم يُفهَم، ولم يُمنح الاعتراف بعواطفه، لا يختفي، بل يتحول إلى شخص بالغ يصنع «ذاتًا بديلة»، متضخمة غالبًا، يقدّمها للعالم كي لا يضطر لمواجهة ذاته الحقيقية المجروحة. وهنا تأتي عدسة الهاتف، كوسيط رمزي وسيكودينامي بين الذات الجريحة والعالم الخارجي. هو لا يُصور المعركة فحسب، بل يُصور ولادة ذات جديدة، خارقة، صلبة، جديرة بالإعجاب. وتُشبه العدسة هنا مرآةً سحرية تقول له: «أنت شيء. أنت موجود. أنت قوي».

Leave a Reply

Your email address will not be published.