حين لا يسمع الطبيب.. اختزال وتهميش الجسد

حين لا يسمع الطبيب.. اختزال وتهميش الجسد

دخلتُ إلى غرفة الطوارئ، مثقلًا بتجربةٍ جسدية مريرة بدأت بحمى عنيدة، تلتها إفرازات صديدية من الأنف، وسعالٌ عنيد يُقيم في الصدر، كما يُقيم الغريب حين يُغلق دونه الباب، ثم تطوّرت الأعراض إلى شعورٍ مفاجئ بالخفقان، هبوطٍ في الضغط، وقشعريرة داخليّة كأن شيئًا ما ينفصل بداخلي عني.

وقفتُ أمام الطبيب الأول في مستشفى فخم بمصر الجديدة، ذاك الذي يُفترض أن يكون «البوابة»، ذلك الذي يلتقي الوجع أولًا؛ فيقرؤه. بدأت أحكي، كما يحكي أي جريحٍ يطلب فهمًا لا دواءً فحسب. تحدّثت عن البدايات، عن الحمّى، والإرهاق الذي لم يكن قلبيًا في جوهره، بل جسديًا عامًا. لكنه لم يسمع. أكرر: لم يسمع.

لم يكن مشتّتًا، ولا مشغولًا بحالات أخرى. كان هناك، بكامل حضوره الميكانيكي مُبرمجًا، كان يسأل فقط عن الأعراض القلبية: هل هناك ألم؟ هل هناك خفقان؟ متى بدأ؟ وحين حاولت أن أشرح أن القصة لا تبدأ من القلب، بل تصل إليه كـ«نتيجة» لا «بداية»، رأيت انزعاجه. هل فقد الطبيب فضوله؟ الطبيب الجيد ليس فقط من يملك المعرفة الطبية، بل من يحمل فضولًا إنسانيًا أصيلًا، من يسعى لفهم حكاية الجسد من بدايتها لا من نهايتها فقط، من يصغي لا ليسجّل بل ليرى. لكن ما رأيته في تلك الليلة لم يكن فضولًا، بل اختزالًا.

لم يقترب أحد من صدرٍ يعلو ويهبط، ولا من حلقٍ جاف. حتى طبيب القلب المتخصّص لم يضع السماعة على صدري. لم يسمعني جسديًا، ولم يسمعني لفظيًا.

التاريخ الطبي ليس رفاهية. تُعلّمنا كل المناهج الطبية أن التاريخ المرضي، هو حجر الأساس في التشخيص. بل إنّ الدراسات تشير إلى أن أكثر من 70% من التشخيصات الدقيقة تبدأ من التاريخ الجيد فقط، قبل الأشعة، وقبل التحاليل، لكن الواقع في بعض المؤسسات الطبيّة في عالمنا العربي، وربما عالميًا، أصبح مختلفًا. أصبحت المقابلة الطبية السريعة تدقيقًا في الأرقام، لا إصغاء إلى الحكايات. وطبّ القلب لا يعني إهمال الجسد. القلب لا يعمل في فراغ. بل يتأثر بالتهابات، بعدوى، بارتفاع درجة الحرارة، بالجفاف، بالإجهاد العصبي، بالأدوية، وحتى بالحزن.

لكن حين يُقصى كل ما سبق ويُقال لك: «نحن هنا للقلب فقط»، فلست أمام «تخصص»، بل أمام تشرذم طبي يُجزّئ الإنسان، ولا يفهمه، إن الخبرة ليست بديلًا عن الإصغاء. قد يقول قائل: الطبيب المتمرّس يعرف ما يبحث عنه، ويكفيه القليل ليُدرك الكثير. هذا صحيح، لكن حتى الطبيب الأعظم، لا يستطيع أن يُشخّص ما لا يُقال له. وما لا يُقال لا يظهر في التحاليل. وما لا يُسأل عنه لا يُسجّل في الملف. من واجبه أن يأخذ دقيقة فقط ليسأل: متى بدأت الحُمّى؟

علاقة المريض بالطبيب.. لا صوت لمن لا يُصغي. حين يشعر المريض أن الطبيب لا يسمعه، لا يصدقه، ولا يهتم بسياق ألمه، فإنه يفقد الثقة التي ليست مجرد شعور لطيف، بل عامل علاجي أساسي. حيث تُظهر الدراسات أن المريض الذي يشعر بأنه مفهوم ومحترم يلتزم أكثر بالعلاج، يُشفى أسرع.

أما المريض الذي يُسكَت، يُقاطع، يُختَصَر؛ فهو مريض منكسِر، حتى لو تحسنت علاماته الحيوية.

الطب هو الإصغاء أولًا. وهذه المقالة ليست هجومًا على الأطباء؛ فأنا منهم. لكنها صرخة: استمعوا لمرضاكم. لا تجعلوا الأجهزة تحجب الحكاية. لا تختصروا الجسد في رسم قلب. ولا تختزلوا الإنسان في ضغط ونبض ونتائج معملية. كل مريض يحمل في داخله خريطةً لشفائه، مخبأة في سرده، تردّده، وخوفه.

بعدها زرْتُ طبيبًا مختلفًا، اسمه الدكتور كريم سالم مشهور. لم يكن فقط بارعًا، بل إنسانيًا بحق. جلس إلى جواري، استمع إلي من البداية للنهاية، لا باختزال ملول، بل بأُذنٍ صاغية وقلبٍ منشرح وصدرٍ رحب. وضع السماعة على صدري، قاس الضغط بنفسه، ابتسم، واحترم خوفي وأسئلتي. أمسك بالأوراق والتقارير الطبية كأنها خريطة كنز لا ورق مرهق، وشرح لي بهدوء ما الذي يجب أن أفعله، وما الذي يجب ألا أفعله. في تلك اللحظة شعرت أني في يد أمينة. هذا النوع من الأطباء لا يقدم فقط العلاج، بل يُعيد للمريض ثقته بنفسه وبالجهاز الطبي. وهو برهان حيّ على أن التعامل الإنساني قد يشكّل أكثر من 75% من الشفاء، حتى قبل أول جرعة دواء.

Leave a Reply

Your email address will not be published.