سيكولوجية الدم فى مصر الآن
الجمعة 20-04-2012
د: خليل فاضل
الجمعة 20-04-2012
علمنى طب النفس وعلاجه المحدد المركز على بؤرة المشكلة ولُبّ العقدة أن أحاول أن أفهم رغم مرارة الحلق ووجع القلب، والخلاصة كما أراها هى «أهدت الثورة فى 11 فبراير 2011 وردة إلى الحكام الجدد فبددّوها وأساءوا وشوهوا وجه الثورة، وحاولوا إضاعة دماء شبابها وغسلها بدماء جديدة ليست مختلفة إلاّ باختلاف الأطراف زماناً فقط، لكن فى الواقع هؤلاء الأقباط يمثلون الناس وهؤلاء الجنود يمثلون السلطة، فسدّد أحد الناس العادية مطواة إلى أحد الناس العادية فى زى القوات المسلحة، أى سدّد مطواة إلى تسعة أشهر – حملته فيه وهناً – من إدارة فاشلة لأمور البلاد، فلا هم حققوا ولا حاكموا ولا حتى استطاعوا إسعاف المصابين بجميع إمكانيتهم، وعلى حسب قول مذيع (هاتولنا طيارة المخلوع اللى بيروح بيها المحكمة علّها تنقذ بعض الضحايا)».
زاد المسؤولون الطين بِلَّة بإعدام حمام الكمونى فى محاولة لدفع الدية، السؤال المهم الآن هو لماذا لم يعدم الكمونى قبلاً إذا كان مذنباً والسؤال الأكبر والأزلى، لماذا عصام شرف يشبه أحمد نظيف جداً؟! إن الذين شخصوا أمراض المجتمع قبل وبعد الثورة قد شخصوها غلط، لأنهم ببساطة لا يملكون أدوات التشخيص، ولا يعرفون شيئاً عن المريض، ولا يرون إلاّ بعض أعراضه التى فسروها خطأ ومن ثمّ جاء العلاج خطأ.
ياما اعتصامات ومظاهرات ولم يحدث مثل هذا العنف قليلاً، إذن فما هو السبب الحقيقى هذه المرّة، هو ذلك الغِلّ والضيق والحنق واليأس لدى الطرفين: الناس والأمن، الناس يقولون «اللى فينا مكفينا، كفاية بقى، مش ناقصينكم، كرهنا وجودكم حولنا وأمامنا وبيننا، كمركبات صمّاء وجنود صامتون».
إن الأمن بشقيه البوليسى الذى يمتلك رصيداً لا بأس به من الغباء والحقد والكره لكل من يعترض، والعسكرى برصيده من تبادل زجاجات المياه والورود والصور التذكارية فوق الدبابات، لا يعرفون إلا مهمات محددة، ورغم أنهم من الناس فإنهم جدد ومستغربون وقوفهم هكذا فى الشوارع وأمام البنايات المهمة وغير المهمة، ومن ثم فهم يعتقدون – خطأ – ها نحن لم نطلق النار عليكم إبان الثورة ويؤكدها رئيسهم طنطاوى متناقضاً مع نفسه «لم يطلب منا أحد إطلاق النار»، نحن مصريون ونعيش فى مصر والجيش المصرى مصرى، والناس مصريون «لا ينفع ولا يجوز ولاحدّ يقدر يعادى أهله، ولا حتى يفكر ولا يقدر عليهم، ولو نوى الشر وخانه ضميره وفقد صوابه، سيجد أن فى ضرب الناس بالنار انتحاره ونهايته ونهاية الوطن».
الشعوب لا تُقهر مهما كان بطش الآلة البوليسية أو العسكرية أو تفكير ديكتاتورييها، الناس بكل نفاد الصبر من التباطؤ والتواطؤ والتمثيل والمحاكمات المسرحية والرئيس المخلوع المتمارض الذليل تعبوا وملّوا، عندئذ يكون الموت أهون على الحرّ من حياة تجرعها غصص ذل وهوان، ورد الفعل دائماً غير محسوب وقبيح.
فى المذبحة فوجئ الأمن بشقيه بالهجوم عليه – ربما – كانت هناك بعض القلة والأجانب والخونة والأشرار، كما كانوا فى كل مذبحة وكل ثورة وكل انتفاضة وكل موقعة.
هناك لفّت المدرعة – فى ماسبيرو فى مشهد تكرر أثناء الثورة – دارت مترنحة كالذى فقد وعيه وأكله الغيظ من المباغتة، وتعب من صمته ومن وقفته الدائمة فى الشارع، من تغير مكانه فى جبهات القتال إلى شوارع الناس وداخل أحياءهم، فوجد لذة فى اقتحام استوديوهات التليفزيونات، وكأنها تجربة حرب جديدة.
أما عن رد فعل المجلس الوزارى العسكرى «إعدام حمام الكمونى، قانون دور العبادة الموحد بعد أسبوعين – هل يحتاج إلى كل هذه الجثث وكل هذا الدم ليصدر، ولماذا لم يصدر بعد صول وأطفيح وإمبابة»، مصطفى باشا السيد محافظ أسوان حبيب مبارك، هو الذى أشعل فتيل الفتنة، ويجب الآن وفوراً أن يقدم إلى المحاكمة لأنه غبى ومُدان. كنيسة إدفو «حجة» فجرت العقل الجمعى للناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.
لنا أن نعيد السؤال لماذا هنا «فى ماسبيرو، رمز للإعلام المتهاوى الذريع الفشل، داخل العاصمة».. على بعد خطوات من ميدان التحرير؟ ولماذا الآن؟ لأن هناك من تجاهل الناس، واستهزأ بهم احتقرهم وتركهم ينبحون على كيفهم بالضبط مثلما فعل سابقوا شرف والمجلس لا… كفاية.
أما آن الأوان للقوى الفاعلة الحاكمة والمستبدة بعقول الناس وبتفكيرهم القوى المؤثرة «لاحظوا أنا لا أتكلم عن الفلول أو البلطجية»، لكن أتحدث عن تلك الأجهزة الخطيرة التى تتحرك فى الخلفية «علناً وخفاءً»، إعلاماً حقيراً مبتذلاً بقوة وسحر الكلمة فى الشارع وفى المواصلات.
إن الجندى فى الدبابة ما هو إلا رمز للمجلس العسكرى، وحامل الصليب ما هو إلا رمز له واجهة قبطية للناس، لكنه بنى آدم مصرى يحمل هم وكبْت السنوات والسياسات، يلوك المجلس الكلمات ويجيد التسويف، لكن انقلب السحر على الساحر، فلا المسلمون «المتعصبون» تركوا أماكنهم ليهاجموا إخوانهم الأقباط، وإلا أكلت المحرقة الإثنين، لتبقى ظلال مبارك المشوهة، ولا نجح أحد فى إيجاد المبرر الكافى ليحكم القبضة على البلد والناس، بل تعرّى من آخر ورقة توت فانكشفت حيلة الساحر وعجزه.
إنها أزمة ثقة اجتماعية وأمنية كبرى، وأصبح الأمن والأمان من أولويات المصرى، قبل تحصنه من أعدائه التقليديين.
لكن من هو المسؤول الحقيقى عن حرق عصب الاطمئنان، لقد حدث شرخ هائل وصدع خطير من شلال الدم الذى أغرقنا فى لجته حتى صرنا نجاهد لكى نتنفس. الخوف كل الخوف أن نعمم. أن يخاف كلنا من كلنا، أو أن يقتل بعضنا البعض، ونموت حسرة من الحالة نفسها، فثورتنا ليست بين قوسين، والنظام الذى أسقطه الشعب لأنه يريد، لا بدّ أن يُعدَم وفوراً.