كتب سليمان جودة في المصري اليوم 22/11/25 «لا يتم التزييف ولا شىء منه إلا فى غياب الوعي، فإذا غاب الوعي أو جرى تغييبه، فمن السهل على المرشح سواء كان فردًا أو حزبًا، أن يدفع الناخب إلى انتخاب مرشحين لم يكونوا هُم الذين قصَد أن يمنحهم صوته، لو أن الأمر بقى فى يده بإرادته الحُرة. ولأن القصة كلها عبارة عن وعي لدى الناخب؛ فالقصة قصة تعليم أو لا تعليم لدى المواطن، ومن المفهوم أن حصاد التعليم بعيد المدى».
إن الوعي ليس «حالة»، بل نتيجة مسار طويل من التعرّض والانكشاف. يختزل المقال الوعي في كونه مهارة فردية أو قدرة عقلانية لدى الناخب، بينما الوعي فى التجربة السياسية الحديثة هو محصّلة لعقود من تشكّل علاقة المواطن بدولته. يتحدَّد الوعي بما إذا كان الإنسان قد تعلّم أن صوته يُحدث أثرًا، وأن إرادته تُحتَرَم، وأن المجال العام ليس حقلًا مُغلَقًا، بقدر ما هو مساحة تتكاثر فيها الأصوات المتعارضة. الوعي هنا ليس «تعليمًا»، بل إحساسًا داخليًا بأن المرء فاعل وله مكان وصوت، وأن الدولة ليست قوة غامضة تتحكم من فوق، بل علاقة متبادلة بين طرفين.
بدون هذا الإحساس، يصبح الحديث عن الوعي ضربًا من الحديث عن جهازٍ دقيق داخل بيئة غير صالحة للعمل.
الوعي لا ينفصل عن شروط الحياة: الفقر، الخوف، هشاشة الأمان. والتزييف ليس عملية تقنية: مال سياسي، دعاية سلبية، إعادة توجيه الاهتمام… ولا يتوقف عند حقيقة أن الوعي نفسه يتآكل تحت وطأة الفقر والحرمان والخوف؛ فالإنسان الذى يعيش يومه على حافة الانهيار لا يبحث عن الحقيقة، بل عن النجاة.
هنا تتجلى الطبيعة السيكودينامية للوعى: الجائع لا يُفكّر، والخائف لا يرى الحقيقة، ولا يستطيع أن يصوّت بحرية مهما رُدّد عن الوعي من أهمية وقداسة. إن الوعي ليس قرارًا، بل قدرة داخلية لا تزدهر إلا فى بيئة آمنة.
حين يشعر المواطن أن الدولة تراه، تحترمه، وتستمع لشكواه، كما حدث مؤخرًا، ولا تعامله باعتباره عنصرًا في «كتلة بشرية»، تنشأ أول بذرة للوعى السياسي. هذا الوعي لا يخاف أن يخطئ، ولا يخاف أن يعلن رأيًا. أما حين يُربّى المواطن على أن الصندوق لا يغير شيئًا، وأن نتائج الانتخابات محسومة مسبقًا؛ فهنا لا يموت الوعي فقط، بل يتحول إلى نوع من «الواقعية السلبية» التي يبرّر بها المواطن عزوفه عن المشاركة.
إن الوعي فى السياسة ليس مسألة معلومات، بل مسألة ثقة. والتزييف الخارجى يمكن فضحه، أما التزييف الداخلي فهو أخطر؛ فحين يكتسب المواطن ميلًا نفسيًا لاشعوريًا إلى التماهي مع أصحاب النفوذ، أو الإيمان بأن التغيير مستحيل، أو الشعور بالذنب عند التفكير في الاعتراض. يُسمّى هذا بـ«القبول القهري»؛ أن يقتنع الفرد بمن يخنقه لأنه لا يستطيع تحمّل فكرة الخروج عن الصف. هنا تتجلى المشكلة: الوعي ليس هو أن تعرف الحقيقة، بل أن تتحمّل نفسيًا ثمن معرفتها.
إنها إعادة إنتاجٍ لاواعية للعلاقة الأولى مع السلطة الأولية: الأب، الأم، أو أيّ رمزٍ تأسيسي تشكّلت عنده مشاعر الأمن والخوف معًا. حين يواجه المواطن قوةً قاهرة، يستيقظ داخله ذلك الطفل القديم الذي تعلّم أن النجاة لا تأتي من الاعتراض، بل من التكيّف.
يطلب المقال من الدولة أن «ترغب» في برلمان يعبر عن الناس، لكن الوعي بصفته طاقة اجتماعية لا يمكن أن ينمو بمجرد رغبة فوقية؛ فالوعي يحتاج إلى: مجال عام مفتوح، إعلام مستقل، اشتباك نقدى يومي، حياة سياسية لا تُعاقَب فيها المعارضة، تعليم يفكّر ولا يلقّن.
بدون هذه العناصر، يصبح الحديث عن الوعي أشبه بالحديث عن زراعة أشجار فى الصحراء دون ماء. الخلاصة أن مقال الأستاذ جودة يحمّـل الناخب مسؤولية الوعي، لكنه يتجنب سؤالًا جوهريًا: هل سُمح للوعي منذ 1952 أن ينشأ أصلًا؟ إن الوعي لا يُخلق من فراغ، ولا من خطاب أخلاقي، ولا من لومٍ للناخبين، بل من بيئة تسمح للإنسان بأن يرى نفسه، ويثق فى صوته، ويشعر بأن إرادته لها وزن.
فى النهاية، الوعي ليس «ممتلكًا فرديًا»، بل هو مشروع دولة ومجتمع وثقافة. ومن دون هذا المشروع، سيظل التزييف ممكنًا، ليس لأن المواطن جاهل، بل لأن الوعي لم يُمنح شروط وجوده الطبيعية.

Leave a Reply