إن رفع أسعار الحجز في مستشفى العباسية للصحة النفسية، إلى مستويات تتراوح بين 4,500 و11,500 جنيه شهريًا ليس مجرد خطأ إداري، بل جريمة أخلاقية ووطنية. القرار يقول بوضوح: «من لا يملك المال، لا حق له في العلاج». وكما أشارت كريمة كمال في المصري اليوم 14 أغسطس 2025؛ فإن المريض الذي لم يكن يقدر على دفع جنيه واحد لتذكرة العلاج، يُطلب منه اليوم آلاف الجنيهات.
مريض الذهان.. وهو اضطراب عقلي شديد تنفصل فيه صلة الإنسان بالواقع، فيسمع أصواتًا لا وجود لها، أو يرى مشاهد غير حقيقية، ويؤمن بأفكار ضلالية ثابتة، مع اضطراب التفكير والانفعال، لا يملك ترف الانتظار. هذه الحالة قد تدفع المريض، دون إدراك، إلى أفعال غير متوقعة أو مدمّرة. التدخل الطبي العاجل هنا واجب، يبدأ غالبًا بالحجز في المستشفى لمتابعة العلاج بالأدوية المضادة للذهان، مع دعم نفسي، وإعادة تأهيل اجتماعي، وتثقيف الأسرة حول كيفية التعامل معه. تأخير الحجز أو منعه بسبب الفقر يعني ترك المريض وأسرته والمجتمع في مواجهة خطر داهم.
كانت العباسية لعقود رمزًا للأمان للفقراء، توفر العلاج بالمجان أو بتكلفة رمزية، وتمثل شبكة أمان حقيقية للمجتمع. اليوم، القرار الجديد يغلق هذه الشبكة، ويحوّل الحق في العلاج إلى امتياز للأغنياء. هذا ليس «تطويرًا» كما قد يُروَّج، بل إقصاء ممنهج، يدفع المرضى الأكثر هشاشة إلى الشارع، حيث تتفاقم المخاطر.
هذه ليست قضية طبية بحتة، بل قضية أمن قومي. في الدول المتقدمة، يُعتبر علاج الأمراض النفسية الحادة أولوية وطنية، تُقدم فيها الخدمة مجانًا أو بتغطية كاملة، لأن إهمالها يؤدي إلى انفجارات اجتماعية وأمنية. أما نحن، فنفرج عن مرضى ذهان غير مستقرين إلى الفضاء العام، ثم نتساءل عن أسباب تزايد الجرائم أو الانتحار أو انهيار الأسر.
شرف أي حكومة يُقاس بمدى رعايتها لأضعف أبنائها. حين تطردهم من المستشفى، فهي تطردهم من قلب الوطن. كيف نطلب من المواطن أن يثق في حكومته وهو يراها تدير ظهرها لمن هم في أمسّ الحاجة إليها؟ هذا القرار يبعث برسالة قاسية: «لستم أولوية»، وهي رسالة كفيلة بزيادة الفجوة بين الدولة ومواطنيها.
كريمة كمال لم تكتب مجرد رأي عابر، بل وثّقت واقعة صادمة، ووجّهت صرخة وطنية في وجه قرار قاتل، قائلةً: «في وقت يرى العالم أن الصحة النفسية ضرورة، نحن نجعلها ترفًا». هذه الجملة تختصر جوهر الأزمة: نحن نتراجع بينما العالم يتقدم، ونجعل الحياة الكريمة رفاهية.
إن الإهمال في علاج الذهان لا يُصلَح لاحقًا بتكلفة بسيطة، بل بثمن فادح: جرائم، انتحار، تفكك أسري، انهيارات مجتمعية، وضغط متزايد على أجهزة الشرطة والطوارئ، والمريض الذي يُحرم من التدخل العاجل تتدهور حالته، وتصبح مقاومته للعلاج أعلى، ما يرفع التكلفة لاحقًا أضعافًا. بل إن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن فقدان الإنتاجية وزيادة الاعتماد على الدعم الاجتماعي قد تتجاوز بكثير ما تحققه الدولة من «توفير» قصير النظر.
إن استمرار هذا القرار يعني عمليًا إعلان «العلاج للأغنياء فقط». وهذا الإعلان، إلى جانب كونه غير إنساني، يضعف الأمن القومي ويهدد الاستقرار الاجتماعي. المطلوب ليس فقط إلغاء القرار، بل إعادة بناء رؤية شاملة للصحة النفسية كجزء من البنية التحتية الوطنية، مع تمويل مستشفيات الصحة النفسية بميزانيات عاجلة ومستقلة، وتوسيع طاقتها الاستيعابية، وتدريب الكوادر على التدخل السريع.
إن الصحة النفسية ليست رفاهية، بل خط الدفاع الأول عن المجتمع. التخلي عنها هو التخلي عن الوطن نفسه. وأي حكومة تتنازل عن هذا الدور، تتنازل عن جزء من شرعيتها أمام مواطنيها.
Leave a Reply