من «كامل الأوصاف» إلى «كلّه وحش».. آليات الانفصال عند الأزواج الجدد

من «كامل الأوصاف» إلى «كلّه وحش».. آليات الانفصال عند الأزواج الجدد

الزواج عند الشباب اليوم لا يجمع شخصين فحسب، بل يضم داخله عوالم طفولتهما كلّها، أنماط التعلّق، صورة الذات، وتمثُّلات «الأب» و«الأم» فى اللاوعى. يدخل كل طرف وهو يحمل «حكاية قديمة» عن الحب والرعاية والرفض والخذلان، ويبحث لا شعوريًا عمّن يُرمّم تلك الحكاية. وهنا تنشأ لعبة التوقّعات؛ فهناك من ينتظر «الأم الحنون» أو «الأب الحامى» داخل الشريك، ويصطدم حتمًا بحدود الواقع. وكلما كان العَقْد النفسى بلا وعى بالحاجات العميقة وحدودها، ارتفع خطر الصراعات المبكّرة، التى تُرى كـ«عدم توافق»، بينما أصلها سوء فهم دينامى للحاجات المدفونة.

إن البداية المبهرة ثم سقوط الصورة، أى آليّة التقسيم Splitting، تُحوّل الشريك من «كامل الأوصاف» إلى «كلّه وِحِش»؛ فتغيب المنطقة الرمادية. وما لا يُحتمل فى الذات يُلقى على الآخر: «أنت البخيل، المسيطر، اللا مبالى»، بينما البذرة موجودة لدى المُتَّهِم بدرجاتٍ ما. فى الحقيقة هو إعادة تمثيل لمشهدٍ قديم مع أحد الوالدين.. إهمال، انتقاد، انسحاب؛ فيتزوّج الشاب أو الشابة «لا شعوريًا» من جرحه القديم، كى ينتصر عليه هذه المرة؛ فيُفشل العلاقة بسيناريو مألوف.

وتتفاقم المخاوف على صورة الذات فى عصر المقارنات الدائمة: «كيف أبدو؟ هل أتزوّج شخصًا يرفع من مكانتى؟»، هنا يعلو هوس الواجهة على بناء رابطة عميقة. ولدى بعضهم، يستدعى القرب العاطفى خوفًا من الابتلاع أو الفقد؛ فينتجون مسافة دفاعية: انسحاب، سخرية، أو انشغال مُفرط بالعمل والموبايل.

هشاشة بدء الحياة، مع غلاء السكن وضغوط العمل وتأخّر الاستقرار المالى، تجعل «الشقة والأقساط»، شريكًا ثالثًا حاضرًا فى كل مشاجرة، كما أن الحدود المُغَبَّشة بين بيت الزوجين وبيت العائلتين، مع ثقافة «النصيحة المُلزِمة»، تحوّل خلافًا صغيرًا إلى «قضية» جماعية.

أما السوشيال ميديا، فتنتج نموذجًا مُصنّعًا لسعادة زوجيّة مسرحية؛ فيُقرأ الجهد الواقعى بوصفه فشلًا، وتُرفع شعارات مثالية عن الصبر والطاعة والقِوامة، دون تدريب عملى على مهارات التواصل والحدود، فتُستَخدم كسلاح بدل أن تكون إطارًا داعمًا.

كيف تتدهور العلاقة؟ إنها سلسلة دقيقة من «الميكرو- أحداث»، احتكاكات يومية صغيرة لا تُحل.. سخرية، تهميش مشاعر، مع تآكل الأمان؛ فيبدأ كل طرف بتأويل أفعال الآخر على أسوأ احتمال. ويظل الاحتقار والتهميش أخطر مؤشّر، إذ يحوّل الخلاف من «قضية» إلى «شخصنة».

يأتى بعد ذلك قرار الطلاق المتسرّع بهدف إيقاف الألم، ثم يبرز الجنس المسكوت عنه: خجلٌ من الحوار حول الرغبة، تأثيرات الموادّ الإباحية، على التوقّعات غير الواقعية، ومعلومات طبية ناقصة، فتُقرأ المشاكل الجنسية كـ«رفض شخصى»، بدل أن تُرى كمشكلة قابلة للتدرّب والعلاج. ويتحوّل كل حديث إلى محاكمة، مع غياب «الودّ الصغير» اليومى.

والحل؟ لغة «أنا» بدل «أنت». وإدارة الغضب بتأجيلٍ مُتفق عليه عند ارتفاع الانفعال. تعليم جنسى رصين من خلال مراجعة علمية مع مختصّ، وتمارين تدرّجية لاستعادة القرب دون ضغط.

جلسات زوجية سيكوديناميّة ضرورية لتفكيك «العُقَد القديمة»، وتحديد نقاط التكرار القهرى، وتحويل الإسقاط إلى وعى ذاتى، مع علاج فردى عند الحاجة، خاصةً حين توجد جروح علاقاتية مبكرة، إدمانات، أو اضطرابات مزاجية، إلى جانب تدريب على المهارات: إصغاء مُهتم، تلخيص مشاعر الآخر، قبل الرَدّ، والتفاوض على الحلول، بدل الصراع على «من المخطئ».

مدارس ما قبل الزواج ينبغى أن تكون تدريبًا عمليًا لا وعظًا: مهارات تواصل، إدارة مال، تثقيف جنسى صحى، وحدود العائلة الكبيرة. وكذلك خط ساخن للمشورة المبكّرة، قبل أن تتحوّل الخلافات إلى قضايا ومحاكم، والإعلام بدوره يجب أن يقدّم محتوى واقعيًا، يعرض بناء العلاقة الصحية، بعيدًا عن «السعادة المصقولة»، وصورة الرجل الخارق والمرأة المثالية.

قبل اتخاذ قرار الطلاق، يجب تجميد التهديد، بالامتناع التام عن استخدام كلمة الطلاق كسلاح. ووضع خريطة خلاف واحدة بتحديد ثلاثة ملفات مركزية: المال، الأدوار، والحميمية، كما يُستحسن تجربة عطلة قصيرة معًا لإعادة بناء خبرة مشتركة إيجابية، مع تقييم منتصف المدة: ما الذى تحسّن؟ وما الذى يحتاج خطة أعمق؟.

أما الأطفال، فحمايتهم أولوية قصوى؛ إذ يجب أن يبقى أى نقاش أو توتر بعيدًا عن مرآهم وآذانهم.

الطلاق ليس فشلًا دائمًا، وقد يكون «عملًا علاجيًا» حين تستحيل العِشرة نفسيًا وجنسيًا واجتماعيًا، كما فى حالات الإدمان النشط، لكن يجب أن يتم باحترام إنسانى، مع خطة حضانة واضحة، وحدود قاطعة مع العائلات، ومرافقة علاجية لتضميد الجراح.

Leave a Reply

Your email address will not be published.