سؤال بسيط أم قنبلة فلسفية؟ في مسلسل غربي تسأل الممرضة «ريتشيد» مدير المستشفى: «هل تعتقد أنه يمكن علاج العقل البشري؟»، هي لا تسأل عن بروتوكول دوائي، بل تفتح بوابة للشك: هل «العقل» شيء يمكن تطبيبه كالجسد؟ وهل ما يُسمى «المرض العقلي» قابل للتصحيح؟ أم أنه جزء من تركيبة النفس ذاتها؟ وهل العلاج هو تطويع الفرد ليندمج في المجتمع، أم مساعدته على أن يكون ذاته؟ ليس السؤال إذًا طبيًا فقط، بل وجودي، سياسي، وأخلاقي.
الإجابة الطبية التقليدية.. نعم، العقل يُعالَج؛ فكل طبيب نفسي مدرَّب سيجيب غالبًا بـ«نعم»، انطلاقًا من التحسُّن الملحوظ في أعراض الاكتئاب، الذهان، الوسواس، القلق، كرب الصدمة مع العلاجات الحديثة، وفعالية العقاقير النفسانية والعلاج النفسي الحديث. ومع ذلك، فإن هذه «النِعَم» السريعة تخفي وراءها شكوكًا فلسفية عميقة، مثلًا.. من الذي يحدد معنى «العلاج»؟ هل العلاج هو إسكات العَرَض؟ أم تمكين الذات من فهم أعمق لمعاناتها؟ أم دَمْج المريض في المجتمع حتى وإن ظلَّ يتألم؟
هنا يتداخل الطب مع الفلسفة؛ فلقد رأى «ميشيل فوكو» أن الطب النفسي، رغم ادّعائه الحياد العلمي والسعي للعلاج، قد يتحول في سياقاتٍ معينة إلى أداة قمع ناعمة؛ فبدلاً من أن يُستخدم لفهم المعاناة النفسية وتحرير الإنسان من ألمه، قد يُوظَّف لتطبيع السلوك، وضبط الأفراد، وفرض معايير السلطة السائدة، على ما يُعدّ «طبيعيًا» و«سويًّا». في هذا التصور، لا يكون الطب النفسي فقط علمًا للعلاج، بل جهازًا خطابيًا يشارك في إنتاج مفهوم الانحراف، وتحديد من يملك الحق في الحديث باسم العقل، ومن يُقصَى باسم الجنون. إنها سلطة تُمارَس لا بالسلاسل، بل بسلطة التأويل والتصنيف، لا بالتشخيص.
بينما رأى «جاك لاكان» أن المرض العقلي، لا ينبغي أن يُفهم دائمًا كخلل يجب تصحيحه، أو كعطب بيولوجي صِرف، بل كعلامة، كأثر رمزي يشير إلى اختلال أعمق في البنية النفسية والرمزية للإنسان. وفي تصوره، لا ينفصل الاضطراب العقلي عن اللغة، والرغبة، بل ينبثق منهما، كصدى لما لم يُقل، وما لم يُعاش بتمامِه داخل الذات. الجنون، في بعض صوره، ليس انقطاعًا عن الواقع فحسب، بل هو انكشاف لما هو مسكوت عنه في النظام الاجتماعي واللغوي. إنه لغة مشفّرة، لا تنتمي بالضرورة إلى منطق الأسوياء، لكنها تكشف في شراستها أو تفككها، عن تمزقاتٍ دفينة في الذات والعالم، كأنّ الداخل والخارج يتآكلان في صمتٍ موازٍ، دون ضجيج ظاهر، تلك الشروخ الخفية التي لا تَظهر على السطح، قد تعجز اللغة المألوفة عن التعبير عنها.
إن العقل ليس آلة؛ وليس كيانًا يمكن «إصلاحه» هذا من منظور التحليل النفسي، إنه مرآة لصراعات وجروح لا واعية؛ فالمريض لا يحتاج دائمًا إلى علاج تقنّي بل إلى احتواء وتفسير، لنصل إلى فكرةٍ مركزية: «العلاج والشفاء لا يعنيان اختفاء المرض أو الأعراض، بل يعنيان تمكين الإنسان من قيادة حياة سليمة، أن يكون منتجًا، وقادرًا على الحب والعطاء».
ماذا لو أصبح العلاج إخضاعًا؟ في فيلم «وطار فوق عُش الوقواق» One Flew Over the Cuckoo’s Nest، صرخة ضد القمع المؤسسي باسم العلاج، وتعرية مؤلمة للحدود الضبابية بين الجنون والتمرد، عبر شخصية «ماكميرفي»، الفوضوي والمتمرِّد، ووضّح كيف يمكن للنظام الطبي، ممثلًا في الممرضة «راتشيد»، أن يتحول إلى سلطة ساحقة تسحق الروح باسم النظام. إذن هل الجنون في الفرد، أم في المؤسسة التي لا تحتمل المُختلِف؟ فيلم عن الحرية، العلاج فيه شكلٌ من أشكال الإخماد لا الشفاء. خطرٌ لا يزال قائمًا، حين يُستَخدم الطب النفسي كسلاح ضد المختلف.
إن الطب النفسي يقع في منطقة رمادية بين الرعاية والسيطرة؛ ففيه شفاء فعلي، وفيه أيضًا خطر استخدام السلطة لتحديد الطبيعي والمريض. لذا لا بد أن يُمارَس بضمير إنساني، لا بأحكامٍ قَطعية.
العقل لا يُعالَج كقطعة غيار.. نعم، يمكن تخفيف المعاناة وتحسين الوظيفة، ودعم المرونة النفسية، أي القدرة على التكيّف مع الضغوط والصدمات، والعودة إلى التوازن الداخلي دون الانكسار.