“يا كُلّ حاجَة وعَكْسَها”.. التأثير السَلْبي على الإنسَان

“يا كُلّ حاجَة وعَكْسَها”.. التأثير السَلْبي على الإنسَان

المثل الذي ذكرته كثيرًا.. لطفلٍ في حوالي السنتين، يكسر كوب الحليب ويسقطه أرضًا؛ فيتهشم وينتثر اللبن المسكوب في المكان وتصير الدنيا فوضى، هنا تنفجر الأم بكل تراكماتها وضغوطاتها غاضبةً، وتنهال على الطفل ضربًا مما يجعلهُ ينهار تمامًا، واقفًا أمامها قليل الحيلة، باكيًا مُتشنجًا لا يدري من أمرهِ شيئا.. في الحال تدرك الأم أنها قد ارتكبت مصيبة؛ فتأخذه في حضنها وتُقبّله في نهَم، تُكَفْكِف دمعَه، وتهدئ من رَوْعِة؛ فتماوجت الأحاسيس وتضطرب المشاعر في نفسية هذا الطفل الغَضّ، وهو بعد في مراحل نموه الأولى، نعم.. لقد تعكّرت مياه وجوده، وتسرب الخلل إلى مفاهيمه، وحال عقله الباطن النامي يقول: “إنها أمي الحانية وأنا وليدها حبيبها، ما كل هذا؟”، الضرَر قد حدَث، وكسرًا وشرخًا ما قد حدث داخل أعماق هذا الطفل، فهو لا يدري انه فعل خطأ وعوقب عليه، ثم تلقّى رسالة عطف وحنان ومواجدة، إن هذا التناقض الشديد في طفل ينحدر من أسرةٍ تحمل خلفية بيولوجية لأمراضٍ عقلية، تجعل من هذا الطفل عرضةً في الكبر للإصابة بفصام العقل السكيدزوفرينيا “انفصام العقل”.

بشكل عام فإن الــ Double Bind في علم النفس يعني أن موقفًا ما، تقف فيه وحدك وسط المؤسسة أو البيت أو العالم، وتتلقى رسالتين متناقضتين.. أو أكثر، واحدةٌ ضد الأخرى؛ فلربما قدمت تقريرًا لمديرك الذي أثنى عليه بينه وبينك بشكل غير معهود، وفي الاجتماع العمومي انتقدك بشده لأنك تأتي متأخرًا أحيانًا بعض الشيء.. موقف يلغي موقف، رد الفعل هنا يجعل السيناريو no win situation، موقف تُرسل فيه رسائل مُفعمة بالا عقل، وإن وصلت تكون مُشوّهة، يؤدي هذا إلى تشوش ذهني وضغط نفسي شديد، وتظل بواطن الأمور مُعَلَّقَة، في فضاء الضحية لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، إن لم يكن لطوال عمره!

تكوين الأعراض النفسية، خاصةً التناقض الوجداني.. هو ذلك القيد المزدوج Double Bind، ومفهومه أن تجد نفسك محاصرًا في تواصل مع المُكَوِّن المُضَادّ، مع شخصٍ ما مثلما جاء في فيلم “عسل اسود.. يا بلد فيها الحاجة وعكسها”، هذه الطريقة في التواصل، لا تتمكن من الهروب منها، كطفل يشجعه أبواه على التحدُّث بطلاقة عن انفعالاته، فاذا بدأ في التعبير عن ضيقه وحنقه لأفعالهما؛ فسينزعجان للغاية، مما يجعله يفهم أن الصراحة ليست راحة، وأنه سيُعاقَب في كل الأحوال، وهنا يكظم الغيظ وكتم الشهادة، وتفضيل الصمت والانعزال، والغرق في بحور الفضاء السيبراني، وربما أفلام البورنو وغيرها ومع تتابع التجارب من هذا الصنف؛ فإن الرسائل المتناقضة، تعزز مسألة “القيد المزدوج”، الذي قد يؤدي الى أعراض يكافح فيها الإنسان على جبهاتٍ مُتصارعة ومُختلفة ومعاكسة لبعضها البعض، ويحتار من بين تبنِّى سبل تواصل صحيحة هنا ومخطئه هناك، مما يؤثر على صحته النفسية، ويؤثر على ديناميكية الأسرة التي من أسس وظيفتها إن تكون مُتواصلة بهدوء، وواضحةً كالشمس، كما أن فهم القيد المزدوج مُهم جدًا في العلاج والتشخيص وفهم جذور وبذور الاضطرابات المختلفة، وفك العقدة والاشتباك.

أحُبك.. وبعد أيام، صمتٌ مطبق، ثم لا أحبك ولا أكرهك، وبعد شهور أنا غير موجودة، ثم يحدث الاختفاء، كلٌ في قلبه غصّة، لأن الرسائل المتناقضة قد أوغرت الصدور، وتعثرت الكلمات وتعقد المواقف وعدم الوضوح وفقدت شجاعة المواجهة، مما يجعل في الحلق مرارة، وفي النفس ضَيْم، وفي المستقبل قطيعة.

المشكلة هي أن هذا يحدث مجتمعيًا وإداريًا وسياسيًا واقتصاديًا، على مستوى العالم ها هي أمريكا الشرطي الدولي الفا الغباء، يفعل ذلك يوميا مع حلفائه وأعدائه “رسائل مُتناقضة ومواقف مُضادة” ويظل يخسر ويخسر ويخسر، منذ فيتنام مرورًا بأفغانستان إلى الشرق الأوسط الآن، وكذلك الكيان الصهيوني، الذي تعوَّد على الحروب القصيرة، وعلى كسب النصر الزائف والعنجهية، التي كسرتها المقاومة مؤخرًا، وهو لم يتقوّ إلّا على ضعف الآخرين، وهنا فقدت الرسائل المتناقضة التي ترسلها إلى أعدائها فحواها وهكذا، فمن الممكن أن تُضْرَب على قفاك، وفي نفس الوقت تجد من يبتسم لك ويشدّ على يدك، ويقول لك بطل تحمّل، يا بطل.. نعم تكرار الضرب على القفا يجعل منك خنزيرًا لا تتألم ولا تعترض، وربما تستلِّذ او تتعوّد، أو فجاه تفيق من غفوتك وتبدأ في فهم الأمور من أول السطر.