عثرت مجموعةٌ من أطفال غزه الجائعين، على صندوقٍ أُسقِطَ من السماء، مكتوبٌ عليه بخطٍ رديء “صندوق الدنيا”، ولما فتحوه وجدوا عينًا تشاهد من خلالها أفلامًا وصورًا، وفوجئوا وسط دهشتهم ونسيان جوعهم؛ بحفل أوسكار 96.. تدافعوا لكي يتابعوا المشهد، رأوا الوجوه الحمراء والسمراء والبيضاء، تلك المدهونة بالماكياج، والأجساد السمينة والغليظة والمتأنقة، ورأوا ملابس نساءٍ لم يروها في حياتهم، وأضواء كاشفة بكل الألوان، ورجال يتحدثون بلغةٍ ساخرة أحيانًا، وأحيانًا أخرى يذرفون دموعًا لا يدرون من أين تأتي، وركزّوا على المخرج البريطاني اليهودي “جوناثان جليزر” واستغربوا لحصول فيلم أوبنهايمر على سبع جوائز أوسكار، ولكن أحدهم كان خبيرًا بالسينما العالمية تولى الشرح والتعليق وأجاب على معظم الأسئلة..
بدأ حفل توزيع جوائز الأوسكار متأخرًا على غير عادته، حيث قام مئات المتظاهرين مع وأعضاء SAG-AFTRA وعمال السينما من أجل فلسطين ولوقف إطلاق النار ، بإغلاق الطرق مطالبين بـ «لا جوائز وسط إبادة جماعية»، ومع احتدام الاحتجاجات في الخارج، صعد “جوناثان جليزر” إلى المسرح تهزُّه مشاعره المناهضة للحرب، وكان فوزه بجائزة أفضل فيلم روائي دولي عن “الهولوكوست” Zone of Interest، وقال نحن الآن نقف هنا كرجال تُفحمهم المحرقة ويهوديتهم التي اختطفها الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى موت الكثير من الأبرياء، ما إذا كانوا ضحايا أكتوبر في إسرائيل – [تصفيق.] أو ضحايا الهجوم المستمر على غزة، وجميع ضحايا هذا التجريد البشع من الإنسانية، إن فيلمي مجرد نظرة على «ما نفعله الآن»! كان هذا هو الاعتراف الوحيد على خشبة المسرح بما يحدث في فلسطين، حيث اختار معظم المشاهير ارتداء دبوس أحمر، والسماح لذلك بالتحدث عن نفسه، وحتى الآن وبفعل المافيا الصهيونية أصبح من الصعب العثور على مقطع فيديو خطاب جليزر.
أما فيلم أوبنهايمر فلا يقدم موقفًا نهائيًا من الماهية الأخلاقية لأوبنهايمر كشخص، لقد وقع الرجل نفسه في فخ اختزال القضية إلى التبرير الأخلاقي لإلقاء القنابل على هيروشيما ونجازاكي، ويعني الفيلم رغبته في إنهاء استخدام الأسلحة الذرية بصورة تعسفية في 1945، والحدّ من مساهمته في تطويرها، ثم تردّده وعدم يقينه في المراحل الأولى من الحرب، وعمله على تصنيعها بعد ذلك، مما يخلق لديه تناقضًا وجدانيًا وأخلاقيًا.
إن إلقاء القنابل هو الذي سبب لأوبنهايمر أزمته الأخلاقية، إن افتراضه الأساسي بأن نظريته للقنبلة خاطئة أخلاقيًا، ثم وقع في فخ التبرير لصناعة قنبلة ذرية تسحق اليابان واليابانيين، ومثلها على أصغر وبنفس النظرية، تصنعه أمريكا سلاحًا فتّاكًا وتهديه إلى إسرائيل، لتحقق سياسة الأرض المحروقة في غزة، حيث تمحو البشر والحجر وتجوِّع شعبًا بأكمله، وحرمته من الدواء والهواء والغذاء والكساء وأدنى مقومات العيش، ثم تتحدث عن “جزر إنسانية”، ورصيف مشبوه على بحر غزة، وسفينة مؤن عليها آلاف الجنود الأمريكيين؟
هذا التبرير ملغوم؛ فمن باب قياس احتمالات الوفيات ومعدّلات النجاح، أي وزن الأرواح وفرزها ما بين ما هو مدني وعسكري ومقاتل ومتضامن؟ وفي هذا ظلمٌ بيّن وتعميمات حقيرة يتساوى فيها الرضَّع بالكهل وبالمرأة، وينضوي تحت لواء النصر بالدمار الشامل نتيجة العجز في التعامل مع حماس.
ومؤخرًا قال بوتين في مقابلةٍ تلفزيونية له: “ثالوثنا.. الثالوث النووي، أحدث من أي ثالوثٍ آخر، نحن والأمريكيون فقط لدينا مثل هذا الثالوث، وقد أحرزنا تقدمًا أكبر منهم بكثير في هذا المجال”، ويشير مصطلح “ثالوث” إلى ترسانة الأسلحة الروسية، التي يتم إطلاقها من البر والبحر والجو، وأضاف: “نحن على استعداد لاستخدام الأسلحة، بما في ذلك أي أسلحة، بما فيها تلك التي ذكرتها، إذا كانت المسألة وجودية بالنسبة للدولة الروسية أو تضُرّ بسيادتنا واستقلالنا”.، ومن جهتها، قالت الولايات المتحدة على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض: “لم نرَ أي أسباب تدفعنا لتعديل وضعنا النووي، ولا أي مؤشر على أن روسيا تستعد لاستخدام سلاح نووي في أوكرانيا”.
هذا السجال شبيه بحوارات أوبنهايمر حول عدالة امتلاك القوتين العظمتين نفس الأسلحة؛ فهذا يعني الردع المتبادل، بما يحفظ شكل الحفاظ على البشرية مؤقتًا! ولما أغلقوا صندوق الدنيا وبحثوا عن فتاتِ طعاما يأكلوه، وتناقشوا فيما رأوا وسمعوا انكفئوا على أنفسهم، وسقطت عليهم قنبلةٌ أحدثت ألوانًا بلون السجادةِ الحمراء، التي انبثقت منها أشلاءٌ شبيهة بالضحايا في هيروشيما وناجازاكي.. جفّت الأقلام وطويت الصحف.