ثقافة التبرير.. دفاع نفسي أم مراوغة اجتماعية؟

ثقافة التبرير.. دفاع نفسي أم مراوغة اجتماعية؟

«السيستم واقع، عشان كده حصل خطأ»، «على فكرة، الجزمة مش ضيقة، بس هتوسع مع المشي»، «الدوا اللي طلبته مش موجود، بس في حاجة تانية أرخص وأحسن».. عبارات يومية نسمعها في كل مكان، من الصيدلية، إلى محل الملابس، إلى موظف خدمة العملاء. قد تبدو عادية، لكنها تعكس نمطًا ثقافيًا دفاعيًا متأصلًا في الشخصية المصرية.

هل يمكن أن نسمي هذه الظاهرة جزءًا من الثقافة الشعبية المصرية؟ هل هي حيلة نفسية لاواعية لتجنب الشعور بالذنب أو الإحساس بالتقصير؟ أم هي وسيلة لإعادة صياغة الواقع بشكل فيه تحايل على الآخر، وتجنّب للصدام أو الشجار؟ الموضوع أكبر من مجرد سلوك فردي، إنه نمط متجذِّر، يتكرر لحظيًا في مواقف شتى في حوادث السيارات. مع شركات التأمين، داخل الأسرة، مع عمال النظافة، وفي بيئة العمل نفسها.

علم النفس الدينامي وصف «التبرير» بأنه حيلة لاواعية، يستخدمها الإنسان ليُجمّل صورته أمام نفسه ويحميها من الانهيار أو من مشاعر الذنب. لأنه، ببساطة، يدرك في عمقه أن الشعور بالذنب هو الابن الشرعي للاكتئاب، لذلك يلجأ إلى التبرير، ليهرب من مواجهة الذات، فيُلبِس الخطأ ثوبًا مقبولًا، منطقيًا، بل وأحيانًا بطوليًا.

ويبقى السؤال الأهم.. لماذا يبدو التبرير في مصر ظاهرة جماعية شبه ممنهجة، تتجاوز الفرد إلى المجتمع؟
في مجتمع تراكمت فيه أزمنة الفقر، والظلم، والارتباك القيمي، نشأ وعي يدافع عن «الصورة» أكثر من دفاعه عن «اللُبّ». في ثقافاتٍ كثيرة، ليس عيبًا أن تُخطئ، لكن العيب أن تُخفي الخطأ أو لا تتعلم منه. أما عندنا؛ فالخطأ ليس في التقصير، بل في الاعتراف به علنًا. نحن لا نخشى أن نخطئ، بل نخشى أن نُفضَح. وهكذا يصبح التبرير آلية دفاع جماعية، لا غنى عنها للحفاظ على الكرامة الاجتماعية. العامل الذي يتأخر يوميًا عن عمله يبرر ذلك بزحام الطريق، لا لأنه خرج متأخرًا أو لأنه يتلكأ، والمريض الذي يتأخر باستمرار عن موعد جلسته مع الطبيب، يبرر لنفسه كل مرة، والمسؤول الذي يفشل في إدارة مؤسسة يعلّق ذلك على فساد الآخرين، والطالب الذي يرسب، لا يرى تقصيره، بل يحمِّل المسؤولية لوزير التعليم!

إنها ثقافة تبرير لا تهدف إلى الكذب بقدر ما تهدف إلى التماسك النفسي والاجتماعي… ولكن بثمنٍ باهظ.. غياب الاعتراف، وضياع فرص الإصلاح، واستمرار الدوران في الحلقة ذاتها. إنها الكذبة الأنيقة للذّات؛ فالتبرير من أكثر آليات الدفاع النفسية سحرًا وأناقة؛ فهو لا يُنكر الواقع، ولا يُشوّهه بشكل فجّ، بل يعيد صياغته بطريقة تبدو منطقية، عقلانية، ومقبولة اجتماعيًا.
إنه الكذبة الجميلة التي ترويها النفس لنفسها كي تحمي الأنا من الانهيار، ولكي تتفادى الألم الداخلي الناتج عن الإحساس بالذنب، أو العار، أو الفشل.

في منظور العالِم وينيكوت، يُعتبر التبرير وسيلة لحماية «الأنا الزائفة» من التهديد، تلك الأنا التي تتكوّن حين يُجبَر الإنسان على التكيف مع بيئة لا تحتمل حقيقته، أما كوهوت؛ فيرى «آلية تعويضية يلجأ إليها الشخص لحماية النرجسية المجروحة» من الانكشاف، لكن في كلتا الحالتين، يظل التبرير «طريقًا التفافيًا» حول الألم، لا وسيلةً لمواجهته أو حلّه.

ربما كان محاولة إبداعية من النفس لاستعادة توازنها، لكن خطره يكمن في تكراره، واعتياده، وتحوّله إلى نمط ثابت يُبعد الإنسان عن ذاته الحقيقية، وعن إمكانات النمو والتغيير، ولعل الأهم من ذلك أن التبرير لا يعمل فقط على المستوى الفردي، بل يتحول أحيانًا إلى ظاهرة اجتماعية؛ ففي مجتمعاتٍ مقصومة الظهر، يصبح الدفاع عن «الصورة» أكثر أهمية من مواجهة الحقيقة، عندئذٍ يُنظر إلى الاعتراف بالخطأ كضعف، وإلى تحميل النفس المسؤولية كفضيحة.

خلاصة القول: عندنا يتحول «التبرير» إلى جدار نفسي واجتماعي يحمي الكرامة الظاهرة، لكنه يمنع التغيير العميق، أما في المجتمعات التي تشجّع على المكاشفة؛ فيُعَدّ الخطأ فرصة للتعلّم، ولكن في بيئات أخرى، فالخطأ وصمة، والاعتراف به سلاح يُستخدم ضدك.. هكذا يزدهر التبرير، لا ككذبة فقط، بل كـ«ضرورة اجتماعية»، تُسكِت بها النفس صوت الحقيقة، وتضمن بها استمرار العلاقة بينك وبين نفسك وبينك وبين الآخر. لكن للأسف، مع مرور الوقت، تُصبح هذه الآلية عائقًا أكثر منها وسيلة إنقاذ، لأن المبالغة في استخدامها تعني الغرق في وهم ٍمُزمن، وتحوّل الأنا إلى كيانٍ هش لا يتَحمَّل الحقيقة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.